زاد البخاري؛ قال: وفتر الوحي فترة؛ حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدّى له جبريل عليه السّلام، فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ عينه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي؛ غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل؛ لكي يلقي نفسه منه؛ تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك. انتهى. خازن.
في هذا الحديث دليل صحيح صريح على أن سورة (العلق) أول ما نزل من القرآن، وفيه ردّ على من قال: إن (المدثر) أول ما نزل من القرآن، وقد تقدّم الكلام على ذلك، والجمع بين القولين في أول سورة (المدثر) وهذا الحديث من مراسيل الصحابة؛ لأن عائشة-رضي الله عنها- لم تدرك هذه القصة، فيحتمل أنها سمعتها من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو من غيره من الصحابة، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. وإنما ابتدئ صلّى الله عليه وسلّم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك، فيأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأول علامات النبوة توطئة للوحي. انتهى. خازن.
هذا؛ وذكر السيوطي في إتقانه: أن أول سورة (اقرأ) مشتمل على ما اشتملت عليه (الفاتحة) من براعة الاستهلال، لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة، وفيها البداءة باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب، وإثبات ذاته، وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله:{عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} ولهذا قيل: إنها جديرة أن تسمى: عنوان القرآن؛ لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله. انتهى. جمل بحروفه.
الشرح:{اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أي: اقرأ القرآن مفتتحا قراءتك باسم ربك الجليل؛ الذي خلق جميع المخلوقات، وأوجد جميع العوالم، فهو أمر صريح بافتتاح القراءة بالبسملة، بعد الاستعاذة التي أمر الله بها في سورة (النحل) رقم [٩٨]: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} أي: سواء قرأت في الصلاة، أو في خارجها. وهذا إذا قرأ من أول السورة، أما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة؛ سنّ له أن يبسمل، وإن كان فيها لم تسن له البسملة؛ لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة. هذا؛ وحذف مفعول {خَلَقَ} للتعميم؛ أي: خلق جميع العوالم، ثم خص خلق الإنسان بقوله:{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ:} فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجنس؛ أي: كل إنسان. وقال:{مِنْ عَلَقٍ} ولم يقل: من نطفة لمناسبة رؤوس الآي. وخص الإنسان بالذكر تشريفا، وتكريما له على جميع المخلوقات.