{وَأَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩)}
الشرح: {وَأَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللهِ:} محمد صلّى الله عليه وسلّم. {يَدْعُوهُ:} يعبده ببطن نخلة، يركع، ويسجد، ويقوم، ويقعد. {كادُوا يَكُونُونَ:} الضمير عائد على الجن. {عَلَيْهِ لِبَداً} أي: يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته، وسمعوا من قراءته. قال الزبير بن العوام: هم الجن حين سمعوا القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي: كادوا يركب بعضهم بعضا، وروي عن مكحول: إن الجن بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر.
ويضعفه قوله تعالى: {اِسْتَمَعَ نَفَرٌ}.
وقيل: المعنى: كاد المشركون يركب بعضهم بعضا حردا على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال الحسن، وقتادة، وابن زيد: يعني لما قدم محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر؛ ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره، ويتم نوره. ومعنى {لِبَداً} جماعات، وهو من تلبد الشيء على الشيء، أي: تجمع، ومنه: اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته، ولبد جمع لبدة، مثل: قربة، وقرب، ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد: لبدة وجمعها لبد.
قال زهير في معلقته رقم [٤٣]: [الطويل]
لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف... له لبد أظفاره لم تقلّم
ويقال للجراد الكثير: لبد، وفيه أربع لغات، وقراءات. وقيل اللّبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم، ومنه قيل لنسر لقمان: لبد؛ لدوامه، وطول مدته. قال النابغة الذبياني في معلقته رقم [٦] -انظر شرحه فيها، وشرح بيت زهير، وهو مما امتن الله به عليّ في إعراب المعلقات العشر-: [البسيط]
أضحت خلاء، وأضحى أهلها احتملوا... أخنى عليها الّذي أخنى على لبد
ولا تنس أن لبدا جاء بقوله تعالى في سورة (البلد): {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً} بمعنى الكثير، واللبد أيضا: المقيم، الذي لا يسافر، ولا يبرح منزله. قال الراعي النميري: [البسيط]
من امرئ ذي سماح لا تزال له... بزلاء يعيا بها الجثّامة اللّبد
بعد هذا فالإضافة ب: (عبد الله) إضافة تشريف، وتعظيم، وتبجيل، وتكريم، وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم اسم أشرف منه؛ لسماه به في ليلة الإسراء والمعراج؛ حيث قال جل شأنه في تلك الحالة العلية: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}. وفي معناه أنشدوا: [السريع]
يا قوم قلبي عند زهراء... يعرفه السّامع والرّائي