للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)}

الشرح: {لَأُعَذِّبَنَّهُ..}. إلخ: لقد اختلف في هذا التعذيب اختلافا كبيرا. فقيل: هو أن ينتف ريشه وذنبه، ويلقيه في الشمس ممعّطا، لا يمتنع من النمل، ولا من غيره. وقيل: هو أن يودعه السجن. وقيل: هو أن يحبسه مع ضده. وقيل: هو أن يفرق بينه وبين إلفه. وقيل: هو أن يلزمه خدمة أقرانه. وقيل: هو أن يبعده عن خدمته. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي: بعذر واضح على تغيبه. وقرئ الفعل بنونين. قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: قد حلف على أحد ثلاثة أشياء، فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى: أنه يأتي بسلطان مبين حتى يقول: (والله ليأتيني بسلطان مبين)؟ قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بسلطان؛ لم يكن تعذيب، ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادعاء دراية. انتهى.

وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لما فرغ من بناء بيت المقدس؛ عزم على الخروج إلى أرض الحرم؛ ليحج، فتجهّز للمسير، واستصحب جنوده من الجن والإنس، والطير، والوحش فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم أقام فيه ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي، صفته كذا، وكذا، ويعطى النصر على جميع من عاداه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. فقالوا: بأي دين يدين يا نبي الله؟! قال: بدين الله الحنيفية، فطوبى لمن أدركه، وآمن به!

قالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟! قال: مقدار ألف سنة، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء، وخاتم الرسل. قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء، تزهو خضرتها، فأحب النزول بها ليصلي، ويتغدى، فلما نزل، قال الهدهد: قد اشتغل سليمان بالنزول، فارتفع نحو السماء، ينظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك، فبينما هو ينظر يمينا وشمالا رأى بستانا لبلقيس، فنزل إليه، فإذا هو بهدهد آخر، فسأله من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود، قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس، والجن، والشياطين، والطير، والوحش، والرياح، فمن أنت؟ قال: أنا من هذه البلاد، قال: ومن يملكها؟ قال: امرأة يقال لها: بلقيس، وإن لصاحبك ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه. وبلقيس بكسر الباء على الأفصح، فإنها

<<  <  ج: ص:  >  >>