للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)}

الشرح: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ:} يبصر بهما المرئيات، شققناهما؛ وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب، لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئا، وقدرنا البياض، والسواد، والسمرة، والزرقة، وغير ذلك على ما ترون، وأودعنا البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها. وانظر شرح (العين) في سورة (الدهر) رقم [٦]. {وَلِساناً:} يترجم به عما في ضميره.

{وَشَفَتَيْنِ:} يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النطق، والأكل، والشرب، والنفخ، وغير ذلك، وهما زينة الوجه، والفم، والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه، ونحصي عليه ما عمله.

قال أبو حازم-رضي الله عنه-، وهو آخر الصحابة موتا: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يقول: أي ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك؛ فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق. وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك؛ فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك؛ فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق».

{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} يعني: الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر؛ أي: بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد: الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود-رضي الله عنهما- وغيرهما. وروى قتادة-رحمه الله تعالى-قال: ذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «يا أيها الناس إنما هما النجدان، نجد الخير، ونجد الشرّ، فلم تجعل نجد الشر أحبّ إليك من نجد الخير؟». وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان، وهو قول سعيد بن المسيب، والضحاك، وروي أيضا عن ابن عباس، وعلي-رضي الله عنهما-؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد، ورزقه. والأول هو المعتمد.

هذا؛ وأصل النجد: الطريق المرتفع، استعير كل منهما لسلوك طريق السعادة، وسلوك طريق الشقاوة. قال تعالى في سورة (الدهر) رقم [٣]: {إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً} فالنجد: العلو، وجمعه: نجود، ونجد، وأنجد، وأنجاد، ونجاد، وجمع النجود: أنجدة، ومنه سميت نجد في الجزيرة العربية لارتفاعها عن انخفاض تهامة. قال امرؤ القيس: [الطويل]

فريقان منهم جازع بطن نخلة... وآخر منهم قاطع نجد كبكب

هذا؛ واستعارة الطريق المرتفع للخير لا غبار عليه، وهو ظاهر، ولكن كيف يستعار للشر، وهو هبوط، وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال؟! والجواب: أنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب، وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودا، وهبوطا، وإسفافا. وهذه هي بلاغة القرآن، وروعته؛ التي أخرست الفصحاء، وأسكتت البلغاء. هذا؛ والشفة محذوفة اللام، أصلها: شفهة، بدليل تصغيرها على شفيهة، وجمعها: شفاه، ويقال: شفهات، وشفوات،

<<  <  ج: ص:  >  >>