للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استعارة للمعقول بالمحسوس، حيث استعار ما اشتبك، وتضايق من الشّجر للتّنازع الّذي يدخل به بعض الكلام في بعض، قال طرفة في مدح قومه: [الرمل]

وهم الحكّام أرباب الهدى... وسعاة النّاس في الأمر الشّجر

{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} أي: في صدورهم ضيقا، وشكّا. قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [١٢٥]: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ}.

{مِمّا قَضَيْتَ} أي: حكمت. {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي: ويسلّموا لحكمك تسليما، لا شكّ فيه، ولا اعتراض فيه بالظاهر، ولا بالباطن.

هذا؛ و «ثمّ»: حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كلّ منها خلاف مذكور في «مغني اللبيب»، وقد تلحقها تاء التأنيث السّاكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل «ليس» فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهنّ بالفتح. هذا؛ و «ثمّ» هذه غير «ثمّ» بفتح الثاء، فإنّها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الشّعراء) رقم [٦٤]: {وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [١١٥]: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}. وهذه ظرف لا يتصرّف، ولا يتقدّمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة. وثمّ: تعطف المفرد، والجملة، فإن اتصلت بها التاء؛ اختصت بعطف الجمل.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في الزّبير بن العوّام-رضي الله عنه-ورجل من الأنصار، يقال له:

حاطب بن أبي بلتعة، فعن عروة بن الزّبير-رضي الله عنهما-عن أبيه: أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرّة (مسائل الماء التي تكون من الجبل) التي يسقون بها النّخل، فقال الأنصاري: سرّح الماء يمرّ. فأبى عليه، فاختصما إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزّبير:

«اسق يا زبير! ثمّ أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله! آن كان ابن عمّتك؟! فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال للزبير: «اسق يا زبير! ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر» فقال الزّبير-رضي الله عنه-: أما إنّي لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك، وتلاها. متّفق عليه.

زاد البخاري رحمه الله تعالى: فاستوعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينئذ للزّبير حقّه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك قد أشار على الزّبير رأيا، أي: أراد سعة له، وللأنصاري، فلمّا أحفظ الأنصاريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ استوعى للزّبير حقّه في صريح الحكم، وهو أنّ من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي، فهو أولى بأوّل الوادي، وحقّه تمام السّقي، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن للزبير في السّقي على وجه المسامحة، فلما أبى خصمه ذلك، ولم يعترف بما أشار به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسامحة؛ أمر الزبير باستيفاء حقّه على التّمام، وحمل خصمه على مرّ الحقّ، فعلى هذا تكون الآية مستأنفة، لا تعلّق لها بما قبلها.

<<  <  ج: ص:  >  >>