للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إحكام الشيء، وإمضاؤه، والفراغ منه، كما في الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، ومنه قول الشّاعر، وهو الشاهد رقم [١٧٩]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [الخفيف]

وجهك البدر لا بل الشّمس لو لم... يقض للشّمس كسفة أو أفول

وقال الشمّاخ في عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يرثيه: [الطويل]

قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها... بوائق في أكمامها لم تفتّق

ويكون بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} وبمعنى العلم، تقول: قضيت كذا، أي: أعلمتك به، وبمعنى الفعل، قال تعالى حكاية عن قول السّحرة لفرعون: {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ،} وبمعنى الإرادة، وهو كثير كقوله تعالى: {فَإِذا قَضى أَمْراً،} وبمعنى الموت، كقوله تعالى حكاية عن قول أهل النّار في دار القرار: {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ..}. إلخ.

ويأتي القضاء بمعنى الكتابة، قال تعالى: {وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} أي: مكتوبا في اللوح المحفوظ. وبمعنى الفصل، قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}. وبمعنى الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ}. وبمعنى بلوغ الأرب، والمراد، قال تعالى:

{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} وبمعنى: وفاء الدين، تقول: قضى فلان ما عليه: إذا أوفى ذمّته، وأبرأها ممّا عليه من ديون. انتهى. قسطلاني شرح البخاري. وأضيف: أنّه يكون بمعنى:

أوحينا، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ..}. إلخ.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فإذا كان القضاء بهذه المعاني، فلا يجوز إطلاق القول بأنّ المعاصي بقضاء الله تعالى؛ لأنّه إن أريد به الأمر؛ فلا خلاف: أنّه لا يجوز ذلك؛ لأنّ الله لا يأمر بها، فإنّه لا يأمر بالفحشاء، وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال: إنّه طلق امرأته ثلاثا، فقال: عصيت ربك، وبانت منك. فقال الرّجل: قضى الله عليّ؟ فقال الحسن، وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك؛ أي: ما أمر به، وقرأ قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ..}. إلخ.

بعد هذا؛ فقد جعل الله لكلّ طاعة، وعبادة أولا، وآخرا، إلا الذّكر، فإنّه لا أوّل له، ولا آخر، قال تعالى في سورة (الجمعة): {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،} وقال تعالى في سورة (الأحزاب): {وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} وقال فيها أيضا رقم [٤١]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً،} وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: لم يفرض الله-عزّ وجل-على عبادة فريضة إلا جعل لها حدّا معلوما، ثمّ عذر أهلها في حال العذر غير الذّكر، فإنّه لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلبا على عقله، وأمرهم به في جميع الأحوال كلّها،

<<  <  ج: ص:  >  >>