الناس، و (همّت) بمعنى: عزمت، وقرّرت، وأرادت. والهمّ: العزم على الشيء، والمقاربة من الفعل من غير دخول فيه، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) الصدّيق-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها}. وقال عمرو بن ضابئ البرجمي: [الطويل]
هممت ولم أفعل وكدت وليتني... تركت على عثمان تبكي حلائله
و «الهم» أيضا: الحزن، ومثله: الغمّ. ويفرّق بينهما بأنّ الأول لأجل تحصيل شيء في المستقبل، والثاني لأجل فوات شيء، وفقدانه في الماضي، وبأنّ الأول يطرد النّوم، ويسبب الأرق، والثاني يجلب النّوم، ويسبّب الهدوء، والسكون، والهموم، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان؛ أسرع فيه الشيب، وهزل جسمه. وروي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «الهمّ نصف الهرم».
وقال أبو الطيّب المتنبّي: [الكامل]
والهمّ يخترم الجسيم نحافة... ويشيب ناصية الصّبيّ فيهرم
{لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} أي: يبعدوك عن الحقّ، والعدل مع علمهم بحقيقة الأمر. {وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ:} لأنّ وباله عليهم بسبب تعاونهم على الإثم، وبشهادتهم له:
أنّه بريء، فهم لمّا أقدموا على ذلك؛ رجع وباله عليهم. {وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} يعني: وإن بذلوا جهدهم في إلقائك في الباطل، فأنت ما وقعت فيه؛ لأنّ الله متولّي شئونك، وحافظك، وعاصمك من الزّلل، والخطأ في حياتك كلّها، وما هممت به كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر، لا ميلا في الحكم، وخروجا عن الحقّ.
{وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ:} القرآن. {وَالْحِكْمَةَ:} القضاء بهما، وانظر الآية رقم [٥٤]، فكيف يضرّونك بتدليسهم، وخداعهم، وإلقائك في الشّبهات؟! {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ:} من أحكام الشرع، وأمور الدين، وعلّمك من خفيات الأمور، وأطلعك على ضمائر القلوب، وعلّمك من أحوال المنافقين، وكيدهم ما لم تكن تعلم.
{وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} يعني: لم يزل فضل الله عليك يا محمد عظيما، فاشكره على ما أولاك من إحسان، ومنّ عليك بنبوّته، وعلّمك ما أنزل عليك من كتابه، وحكمته، وعصمك ممّن حاول إضلالك؛ فإنّ الله هو الذي تولاّك بفضله، وشملك بإحسانه، وكفاك غائلة من أرادك بسوء. ففي هذه الآية تنبيه من الله عزّ وجل، وتذكير لنبيه صلّى الله عليه وسلّم على ما حباه من ألطافه، وما شمله من فضله، وإحسانه؛ ليقوم بواجب حقّه. انتهى خازن.
بعد هذا: فالفعل «علم، وتعلم» في هذه الآية من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أنّ المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى في ألفيته-: [الرجز]
لعلم عرفان وظنّ تهمه... تعدية لواحد ملتزمه