سفلة اليهود، ويعدهم بها رؤساؤهم مواعيد فارغة؛ من أنّ الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأنّ النّار لن تمسّهم إلا أياما معدودة، وأنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنّهم أبناء الله، وأحباؤه... إلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة. هذا؛ وأصلها:«أمنوية» على وزن «أفعولة» فقل في إعلالها: اجتمعت الواو والياء، والأوّل ساكن، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ثمّ قلبت ضمّة النّون كسرة لمناسبة الياء، فصار: أمنية، وانظر (تمنى) في الآية رقم [٣٢].
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} أي: من المشركين، وأهل الكتاب، والمسلمين، فمات عليه من غير توبة يجز به النّار، وهو قول الجمهور، ولفظ الآية عام، فالكافر، والمؤمن، مجازى بعمله السّوء، فأمّا مجازاة الكافر؛ فالنّار لأنّ كفره أوبقه، وأمّا مجازاة المؤمن؛ فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه-، قال: لمّا نزلت الآية بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«قاربوا، وسدّدوا، ففي كلّ ما يصاب به المسلم كفّارة له، حتّى النّكبة ينكبها، والشّوكة يشاكها».
وعن أبي بكر الصدّيق-رضي الله عنه-قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية الكريمة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ؟». قلت: بلى يا رسول الله! قال: فأقرأنيها، فلا أعلم أنّي وجدت انقصاما في ظهري، فتمطّأت لها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ما شأنك يا أبا بكر؟!» قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي! وأيّنا لم يعمل سوءا؟! وإنا لمجزيّون بأعمالنا؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«أمّا أنت يا أبا بكر، والمؤمنون فتجزون بذلك في الدّنيا، حتّى تلقوا الله؛ وليس عليكم ذنوب، وأمّا الآخرون، فيجتمع ذلك لهم حتّى يجزوا به يوم القيامة». أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث غريب. وفي رواية قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«أما تمرض، أو يصيبك بلاء؟» قال: بلى يا رسول الله! قال: «هو ذلك».
{وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ..}. إلخ هذا في حقّ الكافر، فأمّا المؤمن؛ فله وليّ، ونصير. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: فإن حملت الآية على الكافر؛ فليس له غدا ولي، ولا نصير، وإن حملت على المؤمن؛ فليس له وليّ، ولا نصير دون الله.
تنبيه: روي: أنّ المسلمين، وأهل الكتاب تفاخروا، فقال اليهود: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، فنبيّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على كتابكم. فنزلت الآية الكريمة، وقرّرت: أنّ الجزاء من جنس العمل، وأنّ الإيمان ليس بالتمنّي.
قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، إنّ قوما ألهتهم الأماني حتّى خرجوا من الدّنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله تعالى، كذبوا، لو أحسنوا الظنّ؛ لأحسنوا العمل.