والمعروف: أنّ يعقوب دخل مصر في ستّة وسبعين نفسا من ولده، وولد ولده، فأنمى عددهم وبارك في ذرّيته؛ حتى خرجوا إلى البحر هربا من فرعون، وهم ستمائة ألف. فانطلق موسى بقومه؛ حتى انتهى إلى البحر فقال له: افرق، فقال له البحر: لقد استكبرت يا موسى! وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك؟! وقال بنو إسرائيل لموسى لمّا أدركهم فرعون بجنوده: أين المخرج، والمخلص، والبحر أمامنا، وفرعون وراءنا، وقد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، وكشف الله عن وجه الأرض، وأيبس لهم البحر، فلحق فرعون وكان على حصان أدهم، وخلفه عسكره، وصار في البحر اثنا عشر طريقا، لكل سبط طريق يتراءون وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقان وشبابيك، يرى منها بعضهم بعضا، فلمّا خرج قوم موسى من البحر، وصار قوم فرعون كلّهم داخل البحر؛ التطم عليهم البحر، فأغرقهم، وألجم فرعون الغرق، فقال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ} فدسّ جبريل عليه السّلام في فمه طين البحر. فقد روى الترمذيّ عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا أغرق الله فرعون، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل عليه السّلام: يا محمد! لو رأيتني، وأنا آخذ من أوحال البحر، وأدسّه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وانظر ما ذكرته في سورة (طه) و (الشعراء) وغيرهما.
قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: ذكر الله الإنجاء، والإغراق، ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه، فقد روى مسلم-رحمه الله تعالى-عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى، وقومه، وأغرق فرعون، وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«نحن أحقّ، وأولى بموسى منكم» فصامه، وأمر بصيامه. وصيامه صلّى الله عليه وسلّم ليوم عاشوراء ليس اقتداء بموسى عليه السّلام، لما روته السيدة عائشة -رضي الله عنها-قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصومه في الجاهلية، فلما قدم إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان؛ ترك صيام يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. أخرجه البخاريّ، ومسلم.
ولا يقال: إنّ قريشا صامته بإخبار اليهود لها؛ لأنّ اليهود كانوا أهل علم. وصامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة قبل النبوة، وبعدها، ولمّا هاجر إلى المدينة، ووجد اليهود يصومونه، قال:«نحن أحقّ، وأولى بموسى منكم». فصامه اتباعا لموسى عليه الصلاة والسّلام، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالاقتداء بمن قبله من الرّسل بالتّوحيد، وبأصول الدّين، التي لا تختلف من شريعة إلى شريعة، وأما فروع الشرائع فالاختلاف واقع فيها، باختلاف الأزمنة.
وهذا واضح لا خفاء فيه، انظر ما ذكرته في سورة (الأنعام) رقم [٩٠] تجد ما يسرك.