{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ:} أي: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما، وعدوانا، وبسبب جنايته عليه.
{كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ} أي: شرعنا لهم، وفرضنا عليهم، وأعلمناهم، وتخصيص بني إسرائيل بالذّكر، وقد تقدّمتهم أمم قبلهم؛ كان قتل النفس فيهم محظورا؛ لأنّهم أوّل أمّة نزل الوعيد عليهم في قتل النّفس مكتوبا في التّوراة، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلّظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم، وسفكهم الدّماء.
{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ..}. إلخ: أي: من قتل نفسا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحلّ قتلها بلا سبب، ولا جناية فكأنّما قتل الناس جميعا. وفي تأويل ذلك أقوال كثيرة، فروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أنّه قال: المعنى: من قتل نبيّا، أو إمام عدل، فكأنّما قتل الناس جميعا، ومن أحياه بأن شدّ عضده، ونصره؛ فكأنّما أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا: أنّه قال: المعنى: من قتل نفسا واحدة، وانتهك حرمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعا. ومن ترك نفسا واحدة، وصان حرمتها، واستحياها خوفا من الله؛ فهو كمن أحيا النّاس جميعا. وبالجملة: فقد حرّم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بظلم، وعدوان. وهذا صريح قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثّيّب الزّاني، والنّفس بالنّفس، والتّارك لدينه، المفارق للجماعة». أخرجه الخمسة ما عدا ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه-: من استحلّ دم مسلم؛ فكأنّما استحلّ دماء الناس جميعا، ومن حرّم دم مسلم؛ فكأنّما حرّم دماء الناس جميعا. والأقوال في ذلك كثيرة، وأكتفي بهذا. هذا؛ و «الإحياء» يكون بسبب عفو، أو منع من قتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة، كغرق، وحرق... إلخ؛ فكأنّما فعل ذلك بالناس جميعا، والمقصود تهويل أمر القتل، وتفخيم شأن الإحياء. هذا؛ وبين:{قَتَلَ} و {أَحْيَا} طباق وهو من المحسّنات البديعيّة.
{فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ:} متجاوزون حدود الله. وإنّما قال تعالى:{إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} لأنّه تعالى علم أنّ منهم من يؤمن بالله ورسوله، وهم قليل من كثير، كعبد الله بن سلام، وأصحابه. وفيه تقريع لهم، وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، وما أكثر ما وبّخهم الله، وقرّعهم على فسادهم. ومن قرأ القرآن وتدبّر معانيه؛ يجد ذلك في كثير من سوره.
بعد هذا: بين {قَتَلَ} و {أَحْيَا} طباق، وهو من المحسنات البديعية. وفي قوله تعالى:
{أَحْياها} استعارة؛ لأنّ المراد استبقاها حيّة، ولم يتعرّض لقتلها، وإحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه إلا الله تعالى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.