والجاهلية ليست فترة من الزّمن، ولكنّها وضع من الأوضاع يوجد بالأمس، واليوم، وغدا.
والناس إمّا أنّهم يحكمون بشريعة الله، ويقبلونها، ويسلّمون بها تسليما، فهم إذا مسلمون، وإمّا أن يحكموا بشريعة من صنع البشر، فهم في جاهلية، وهم خارجون عن شريعة الله. والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمعنى: أيتولون عن حكمك، ويبتغون غير حكم الله، وهو حكم الجاهليّة؟! هذا؛ ويقرأ حكم بضم الحاء وسكون الكاف، وبفتحتين، كما يقرأ بفتح الميم، وضمّها.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ..}. إلخ: هذا إنكار، ونفي لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له؛ وإن كان ظاهر السّبك غير متعرّض لنفي المساواة، وإنكارها.
{يُوقِنُونَ} أي: يعتقدون بالله، أو بحكمه. وفي الخازن: والإيقان: إتقان العلم بنفي الشّكّ، والشبهة عنه بالاستدلال. واليقين: عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة؛ لأنّ الإنسان في أوّل الحال لا ينفك عن شبهة، وشكّ، فإذا كثرت الدلائل، وتوافقت؛ صارت سببا لحصول اليقين، والطمأنينة في القلب، وزالت الشّبهة عند ذلك. وينبغي أن تعلم أن اليقين من «يقن» الثّلاثي، وأمّا الإيقان؛ فإنّه من «أيقن» الرّباعي. هذا؛ وأصل الفعل:«يؤيقنون» فحذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة مثل:«أؤيقن» الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:«يويقنون» ثم حذفت الياء الساكنة لالتقائها ساكنة مع الواو، فصار (يوقنون).
تنبيه: سبب نزول هذه الآية الكريمة: كانت بين بني النضير، وبني قريظة-حيين من اليهود في المدينة قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليها-دماء، وكان بنو النضير يفضّلون أنفسهم على بني قريظة، كما ذكرته لك فيما مضى قريبا، فلمّا هاجر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة؛ تحاكموا إليه، فقال بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، ويفضّلون أنفسهم علينا، يجعلون القتيل منهم بقتيلين منا، وأرش جراحتنا على النّصف من جراحتهم، فاحكم بيننا، وبينهم، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«أنا أحكم: أنّ دم القرظي كدم النّضيريّ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم، ولا عقل، ولا جراحة». فغضب بنو النضير، وقالوا: لا نرضى بحكمك! فأنزل الله الآية الكريمة على سيد الخلق، وحبيب الحقّ.
تنبيه: روي: أنّ طاوس-رحمه الله تعالى-كان إذا سئل عن الرّجل يفضّل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية، وكان-رضي الله عنه-يقول: ليس لأحد أن يفضّل بعض ولده على بعض، فإن فعل؛ لم ينفذ، وفسخ. وبه قال الإمام أحمد، وأهل الظاهر، وأجاز ذلك مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، واستدلّوا بفعل الصدّيق-رضي الله عنه-في نحله عائشة-رضي الله عنها-دون سائر ولده. واحتجّ الأوّلون بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لبشير بن النّعمان-رضي الله عنهما-:
«أكلّ ولدك نحلت مثله؟» فقال: لا، قال صلّى الله عليه وسلّم:«فلا تشهدني إذا؛ فإنّي لا أشهد على جور».