الأوّل كان بعد موسى، ثمّ تاب عليهم ببعثة عيسى، عليه السّلام، ثمّ عموا، وصموا ببعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي: من اليهود؛ لأنّ بعضهم آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام، وأصحابه. انظر قوله تعالى في سورة (الإسراء): {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} فشرحها جيد هناك. {وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ:} فيجازيهم بما يستحقّون، ففيه وعيد، وتهديد.
هذا؛ و (حسب) من باب «تعب» في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنّهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا على غير قياس، وقد قرئ المضارع بفتح السين، وكسرها، والمصدر: الحسبان بكسر الحاء، وحسبت المال حسبا من باب: قتل بمعنى: أحصيته عددا.
الإعراب:{وَحَسِبُوا:} الواو: حرف عطف. (حسبوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. (أن): حرف مصدري، ونصب. (لا): نافية. {تَكُونَ:} فعل مضارع تام منصوب ب: (أن). {فِتْنَةٌ:} فاعله، هذا؛ وقرئ الفعل بالرّفع على اعتبار أنّ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنّه. والجملة الفعلية في محل رفع خبرها، و (أن) على الاعتبارين تؤوّل مع مدخولها بمصدر، وهذا المصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي الفعل:(حسبوا)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، ويتغيّر معنى (حسبوا) على الاعتبارين، فعلى اعتبار:(أن) ناصبة يكون معناه: الظنّ، والشكّ. وعلى اعتبارها مخففة من الثقيلة يكون معناه: اليقين. وجملتا:(عموا، وصمّوا) معطوفتان على ما قبلهما أيضا، وانظر متعلّق الفعلين في الشّرح.
{ثُمَّ:} حرف عطف. {تابَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: ثمّ تابوا، فتاب الله عليهم، والكلام كلّه معطوف على ما قبله، لا محلّ له أيضا. {عَمُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {كَثِيرٌ:} فيه أربعة أوجه: الأول:
كونه بدلا من واو الجماعة على اعتبارها فاعلا. والثاني: فاعلا، والواو علامة الجمع، كقولهم:
«أكلوني البراغيث». والثالث: كونه خبرا لمبتدإ محذوف؛ أي: العمى، والصمم كثير منهم.
والرابع: كونه مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره. وضعّفه البيضاوي؛ لأنّ تقديم الخبر في مثل ذلك ممتنع. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [٣]: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهذا الاستعمال ورد في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل، وملائكة بالنّهار». وورد في الشعر العربي بكثرة، كقول عبيد الله بن قيس الرّقيات-وهو الشاهد رقم [٦٨٤] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»، والشاهد رقم [١٩٧] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الطويل]
تولّى قتال المارقين بنفسه... وقد أسلماه مبعد وحميم