ذلك ببيان ما حل بهم من نقم جزاء كفرهم، وعصيانهم، وتمرّدهم على الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السّبت، فمسخهم الله إلى قردة.
وهكذا شأن كلّ أمّة عتت عن أمر ربها، وعصت رسله. وإنما قال:{مِيثاقَكُمْ} ولم يقل:
مواثيقكم؛ لأن المراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله تعالى في سورة (الحج) رقم [٥]: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي: يخرج كلّ واحد منكم طفلا. وقال بعض أهل اللّطائف: كانت نفوس بني إسرائيل خبيثة من ظلمات عصيانها، تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر في غلوائها، وعلوّها في حلّتي كبر، وإعجاب، فلما أمروا بأخذ التوراة، ورأوا ما فيها من أثقال؛ ثارت نفوسهم، فرفع الله عليهم الجبل، فوجدوه أثقل ممّا كلفوه، فهان عليهم حمل التوراة، قال الشاعر:[الطويل]
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى... فإن لم يجب نادته بيض الصّوارم
هذا كلّه من صفوة التّفاسير بتصرّف بسيط.
كان سبب رفع الجبل فوقهم: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من عند ربه؛ ليحكم بينهم فيه، فسأل ربّه، فأعطاه التّوراة، فلما رأوا ما فيها من التكاليف الشاقّة؛ كبرت عليهم، فأبوا قبولها، فأمر الله تعالى جبريل عليه السّلام، فقلع جبل الطّور من مكانه، وكان على قدر عسكرهم، وفوق رءوسهم قدر قامتهم كالظلة، وقيل لهم: إن لم تقبلوا التّوراة؛ وإلا أنزلته عليكم، فقبلوها مكرهين، وسجدوا على أنصاف وجوههم اليسرى، وجعلوا يلاحظون الجبل بأعينهم اليمنى، وهم سجود، فصار ذلك سنّة في سجود اليهود، لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، وقالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله، ورحم بها عباده، فلما رفع عنهم الجبل رجعوا إلى الامتناع. وهو ما تفيده الآية التالية.
{خُذُوا ما آتَيْناكُمْ:} اقبلوا التوراة، والتعاليم الإلهيّة. {بِقُوَّةٍ} بجدّ، واجتهاد، وكثرة درس، ونيّة، وإخلاص، واذكروا ما فيه، أي: تدبّروه، واحفظوا أوامره، ووعيده، ولا تنسوه، ولا تضيعوه. هذا؛ والمقصود من الكتب التي يقرؤها كلّ واحد أن يعمل بمقتضاها، ولا يكتفي بتلاوتها باللّسان، فإنّ ذلك نبذ لها على ما قاله الشّعبيّ، وابن عيينة. وقد روى النّسائي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من شرّ النّاس رجلا فاسقا يقرأ القرآن، لا يرعوي إلى شيء منه»، وقال الإمام مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا، وأخذ عليهم؛ فهو لازم لنا، وواجب علينا، قال الله تعالى في سورة (الزمر) رقم [٥٥]: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فأمرنا باتباع كتابه، والعمل بمقتضاه، لكن تركنا ذلك كما تركت اليهود، والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب، والمصاحف لا تفيد شيئا لغلبة الجهل، وطلب الرئاسة، واتّباع الأهواء. وروى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدّرداء -رضي الله عنه-قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشخص ببصره إلى السّماء، ثم قال: «هذا أوان