{قِرَدَةً خاسِئِينَ:} صاغرين، وهذا الأمر أمر تكوين لا قول، كقوله تعالى:{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك، فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية تقريرا، وتفصيلا للأولى، وهو المعتمد.
تنبيه: ذكر الله تعالى هذه الحادثة باختصار في سورة (البقرة) رقم [٦٥] و [٦٦] وبالإشارة إليها في سورة (النساء) رقم [٤٧] وبالتعرض لها في سورة (المائدة) رقم [٨١] وفصلها الحكيم العليم في الآيات الأربع المتقدمة تفصيلا، وكانت هذه الحادثة في زمن داود، عليه السّلام.
هذا؛ وقد قرئ: «(قردة)» بفتح القاف، وكسر الراء، و «(خاسين)» بدون همزة، وذلك في سورة (البقرة) ولم يتعرض أحد لهذه القراءة هنا.
قال أهل التفسير: أمر الله اليهود بتعظيم يوم الجمعة، واتخاذه يوم عبادة، وراحة، فأبوا، واختاروا يوم السبت، فابتلوا به. والسبب في ذلك: أنهم كانوا يزعمون: أن الله ابتدأ الخلق في يوم الأحد، وفرغ منه في يوم الجمعة، فزعموا: أن الله استراح في يوم السبت. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فشدد الله عليهم، فأمرهم بتعظيمه، ونهاهم عن كل عمل فيه، فلما أراد الله، أن يبتليهم كانت الحيتان تظهر لهم في يوم السبت، ينظرون إليها في البحر كالجمال، فإذا انقضى السبت ذهبت، فلم تر إلى السبت المقبل، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: إنكم نهيتم عن الأخذ، فاتخذوا حياضا على ساحل البحر، وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت، فإذا كان يوم الأحد فخذوها، ففعلوا ذلك زمانا، ثم إنهم تجرءوا على السبت، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد حل لنا، فاصطادوا وأكلوا وباعوا، فصار أهل القرية أحزابا ثلاثة، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، انظر الآية رقم [١٦٣]. قال الناهون: لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بينهم بجدار، للناهين باب يداخلون ويخرجون منه، وللعاصين باب، ولعنهم داود عليه الصلاة والسّلام، فأصبح الناهون ذات يوم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم لشأنا، لعل الخمر قد غلبتهم، فعلوا على الجدار الذي بينهم، فإذا هم قد مسخوا قردة.
وقال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، ففتحوا عليهم الباب، ودخلوا، فصار القردة يعرفون أنسابهم من الناس، ولم يعرف الناس أقرباءهم من القردة، فجعلت القردة تأتي أقرباءها من الناس، فتشم ثيابها وتبكي، فيقول لهم أقرباؤهم: ألم ننهكم؟ فتقول القردة برأسها نعم. وانظر (الناجين) في الآية رقم [١٦٥] والجمهور على أن الممسوخين ماتوا بعد ثلاثة أيام.
الإعراب:{فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف. لما: انظر الآية رقم [١٣٤]. {عَتَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. وانظر ما ذكرته في جملة:{نَسُوا..}. إلخ في الآية السابقة. {عَنْ ما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل