على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجدا، وعلمت أن قد جاء فرج، قال: وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته.
والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أيمم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلنا المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال، وهو يبرق وجهه من السرور، قال:«أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك».
قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله! أم من عند الله؟ قال:«بل من عند الله». وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك، قال:
فلما جلست بين يديه؛ قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك». فقلت: فإني أمسك سهمي الذي لي بخيبر، قال: وقلت: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، قال: فو الله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي، قال:
فأنزل الله عز وجل:{لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ..}. إلخ الآيات.
قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله عز وجل قال للذين كذبوا حين نزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ..}. إلخ الآية رقم [٩٥ و ٩٦]، قال كعب: كنا خلّفنا أيّها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حلفوا له فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}. وليس الذي ذكره ما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه، إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن خلف له، واعتذر إليه، وقبل منه. انتهى. قرطبي، وخازن، والترغيب والترهيب للحافظ المنذري بحروفه.