{قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا:} اختلف: هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللّسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول، فيكون مجازا، كما قال الآخر: [الرجز]
امتلأ الحوض وقال قطني... مهلا رويدا قد ملأت بطني
وهذا احتجاج عليهم في قولهم في الآية رقم [٩١]: {قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا}. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه، ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وفي الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأيّ قلب أشربها؛ نكت فيه نكتة سوداء». أخرجه مسلم، يقال:
أشرب قلبه حبّ كذا، قال زهير بن أبي سلمى: [الكامل]
فصحوت عنها بعد حبّ داخل... والحبّ تشربه فؤادك داء
وإنما عبّر عن حبّ العجل بالشّرب دون الأكل؛ لأنّ شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتّى يصل إلى باطنها، والطّعام مجاور غير متغلغل فيها، وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين، فقال في زوجته عثمة، وكان قد عتب عليها في بعض الأمر، فطلّقها، وكان محبّا لها: [الوافر]
تغلغل حبّ عثمة في فؤادي... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها... أطير لو أنّ إنسانا يطير
هذا ولا تنس ندامة الفرزدق حين طلق النّوار، فقال: [الوافر]
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا... غدت منّي مطلقة نوار
وكانت جنّتي فخرجت منها... وأصبح لا يضيء لي النّهار
وقال السّديّ، وابن جريج-رحمهما الله تعالى-: إنّ موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-برد العجل، وذرّاه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذّهب على شفتيه. أما تذريته في البحر فقد دلّ عليه قوله تعالى في سورة (طه) رقم [٩٧]: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} وأما شرب الماء، وظهور البرادة على الشفاه، فيردّه قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ:} بسبب كفرهم، وخروجهم عن طاعة ربهم. هذا؛ وفيه استعارة مكنية، فقد شبه حبّ العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبه به، ورمز إليه من لوازمه، وهو الإشراب على طريق الاستعارة المكنية.