هممت، ولم أفعل وكدت وليتني... تركت على عثمان تبكي حلائله
هذا؛ ولقد كثرت أقوال المفسرين في هذه القصة، وها أنا ذا ألخصها لك، وأطلب من الله التوفيق إلى الصواب، وسلوك طريق النجاح والسداد، فأقول: همت به همّ عزم وقصد لما تبغي من الفاحشة، وهم بها همّ الطباع مع الامتناع، قاله الحسن، ولا صنع للعبد فيما يخطر في القلب من ذلك، ولا مؤاخذة عليه، ولو كان همه كهمها لما مدحه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين، وقيل: هم بها: شارف أن يهم بها، وقل: هم بها: هم بزجرها، ووعظها، وقيل:
هم بضربها، ودفعها عن نفسه، وقيل: هم بها همها: امتناعه، وجواب {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} محذوف، تقديره: لخالطها، أو لكان ما كان، والبرهان الحجة.
هذا؛ وما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-من أنه قال: حل يوسف الهميان، وجلس منها مجلس الخائن، فهو مكذوب عليه، وحاشاه أن يقول ذلك، وما قاله مجاهد وغيره: حل سراويله، وجعل يعالج ثيابه، وقعد منها مقعد الرجل من زوجته، فهو باطل، ويدل على بطلانه قوله تعالى: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} ولو كان ذلك منه أيضا لما برأ نفسه من ذلك، وقوله تعالى:
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفا عنه، وقوله:
{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ولو كان كذلك لخانه بالغيب، وقول النسوة: {ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} بل وتصريح زليخا ببراءته في قولها: {قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} وشهادة زوجها بقوله: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} وشهادة المولود ببراءته، قال تعالى:
{وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها..}. إلخ، ولأنه لو وجد منه شيء من ذلك، لذكرت توبته واستغفاره، كما كان لآدم ونوح، وذي النون، وداود على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وأزكى سلام، وقد سماه الله مخلصا، فعلم بالقطع: أنه ثبت في ذلك المقام، وجاهد نفسه مجاهدة أهل العزم، ناظرا في دلائل التحريم، حتى استحق من الله الثناء الجميل.
وأما قوله: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ..}. إلخ فهذا منه على سبيل التواضع والاعتراف لمخالف النفس لما زكي به، قبل وبرئ، وما روي: أن جبريل عليه السّلام، وقيل:
مثل له يعقوب، فضرب على صدره، فخرجت شهوته من أنامله لا أصل له.
وأما البرهان الذي رآه يوسف، فقد فسره المحققون بوجوه: الأول: قال جعفر الصادق:
البرهان هو النبوة التي جعلها الله في قلبه، فحالت بينه وبين ما يسخط الله تعالى. الثاني:
البرهان حجة الله عز وجل على العبد في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.
الثالث: أن الله طهر نفوس الأنبياء-عليهم الصلاة والسّلام-من الأخلاق الذميمة، والأفعال الرذيلة، وجبلهم على الأخلاق الشريفة الطاهرة المقدسة، فتلك الأخلاق الطاهرة الشريفة،