كان هما، فإذا ذكره لغيره، كان بثا، وعلى هذا يكون المعنى: إنما أشكو حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم، هذا؛ وقد قيل: سميت المصيبة بثّا مجازا، قال ذو الرمة: [الطويل]
وقفت على ربع لميّة ناقتي... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه... تكلّمني أحجاره وملاعبه
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} أي: من رحمته وإحسانه أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه، وقيل: المعنى: وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق، وأنا سنجده جميعا، وقيل: قال يعقوب لملك الموت: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [٨٣].
روى الحاكم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخ، فقال له ذات يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل عليه السّلام، فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السّلام، ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري... ؟!، فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب». انتهى. خازن. وخذ قول القائل: [الكامل]
وإذا بليت بعسرة فاصبر لها... صبر الكرام فإنّ ذلك أحزم
لا تشكون إلى العباد فإنّما... تشكو الرّحيم إلى الذي لا يرحم
هذا؛ وفي الترغيب والترهيب للحافظ المنذري زيادة على ما تقدم في الحديث: (ثم قال يعقوب: أي: رب أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد عليّ ريحانتيّ أشمهما شمة قبل الموت، ثم اصنع بي ما أردت، قال: فأتاه جبريل، فقال: إن الله يقرئك السّلام، ويقول لك: أبشر وليفرح قلبك، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما، فاصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين وتدري: لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة، فأتاكم مسكين يتيم، وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا، قال: فكان يعقوب عليه السّلام بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى:
ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب، وإن كان صائما أمر مناديا فنادى: ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب عليه السّلام.
الإعراب: {قالَ}: ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {إِنَّما}: كافة ومكفوفة. {أَشْكُوا}:
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر، تقديره: «أنا».
{بَثِّي}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها