وفي رواية أخرى عن ابن أبي عباس، وبه قال ابن زيد وغيره: استفتحت الأمم بالدعاء، كما قالت قريش:{اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ..}. إلخ الآية رقم [٣٢] من سورة (الأنفال)، وقيل: إن الرسل والأمم استفتحوا، فالرسول كان يقول:«إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا» كما في الآية رقم [٨٩] من سورة (الأعراف)، والأمم كانت تقول: إن كان هؤلاء صادقين؛ فعذبنا، نظيره قوله تعالى حكاية عن قولهم:{اِئْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ}.
{وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ} أي: خسر، وهلك، والخيبة: قطع الأمل من الشيء المرغوب فيه، والمطلوب تحصيله. {جَبّارٍ:} المتكبر الذي لا يرى لأحد حقا عليه، بل يرى نفسه فوق كل الناس. {عَنِيدٍ:} المعاند للحق، المجانب له، والعنيد والعنود والعاند: المعاند للحق، والمخالف له، وفعله يأتي من الباب الأول والثاني، والرابع، والخامس، والمصدر عندا، وعنودا، وعندا وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية، أي أخذ في ناحيته معرضا، قال الشاعر:[الرجز]
إذا نزلت فاجعلوني وسطا... إنّي كبير لا أطيق العندا
والعنيد والجبار لفظان مترادفان بمعنى: واحد، وإن اللفظ مختلف.
تنبيه: ذكرت في كتابي فتح القريب المجيب الشاهد [٧٤] أنّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك، كان خليفة، وكان خليعا فاسقا، متهتكا مولعا بالرذائل والمفاسد، جبارا عنيدا، لاهيا عن تدبير أمور الرعية، وأحوال الخلافة، وقد فتح المصحف مستفتحا، فوافق ذلك قوله تعالى:
إذا ما جئت ربّك يوم حشر... فقل يا ربّ مزّقني الوليد
فلم يلبث أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده، ومزقه الله شرّ ممزّق {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ}.
الإعراب:(استفتحوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، وقرئ بصيغة الأمر، عطفا على جملة:{لَنُهْلِكَنَّ..}. إلخ فيكون موجها إلى الرسل خاصة، وإذنا لهم بالدعاء على أقوامهم.
(خاب): ماض. {كُلُّ:} فاعله، و {كُلُّ} مضاف، و {جَبّارٍ} مضاف إليه، وهو في الأصل صفة لموصوف محذوف؛ إذ التقدير: كل شخص جبار، {عَنِيدٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف، أو هو بدل من جبار على الترادف، وجملة: {(خابَ...)} إلخ معطوفة على جملة محذوفة، أي فنصر الرسل وسعدوا، وربحوا، وخاب... إلخ.