الدلائل الظاهرة، كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا برهان. {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم من العذاب، ومنقذكم منه. {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ:} بمغيثي ومنقذي، والصارخ، والمستصرخ: هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ: هو المغيث، قال سلامة بن جندل:[البسيط]
كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع... كان الصّراخ له قرع الظّنابيب
الظنابيب جمع ظنبوب، وهو حرف الساق اليابس من قدم، وقال أمية بن أبي الصلت:[الطويل]
ولا تجزعوا إنّي لكم غير مصرخ... وليس لكم عندي غناء ولا نصر
{إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي: كفرت بجعلكم إياي شريكا لله في عبادته، وتبرأت من ذلك، والمعنى: تنصل إبليس ممن تبعوه في الدنيا. {إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:}
يحتمل أن يكون من تتمة كلام الشيطان، أو ابتداء كلام من الله تعالى، وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم، ويتدبروا عواقبهم.
روى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة:
«فيقول عيسى: هل أدلكم على النبيّ الأميّ؟ فيأتوني، فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمّها أحد حتّى آتي ربّي، فيشفّعني، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي، ثمّ يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس الذي أضلّنا، فيأتونه، فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فإنك أنت أضللتنا، فيقوم، فيثور من مجلسه أنتن ريح شمّها أحد، ثمّ تعظم جهنّم، ويقول عند ذلك:{إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ..}. إلخ». وانظر ما ذكرته في الآية رقم [٣٨] من سورة (مريم) عليها السّلام، فإنه جيد.
تنبيه:{بِمُصْرِخِيَّ:} أصله بمصرخين لي، فحذفت اللام الجارة، ثم حذفت النون للإضافة على قاعدة جمع المذكر السالم، ثم أدغمت ياء الجمع بياء المتكلم؛ لأن الأولى ساكنة، والثانية متحركة، ثم حركت الياء الثانية بالفتحة طلبا للخفة، وتخلصا من توالي ثلاث كسرات، وقرئ بكسر الياء على أصل التخلص من التقاء الساكنين، أو إتباعا لكسرة الخاء. وجاء في حديث بدء الوحي «أو مخرجيّ هم؟». ولكن هنا أصله: أو مخرجون لي هم. فقلبت الواو ياء، ثم حصل الإدغام بعد حذف اللام الجارة، وحذف النون. تأمل. ولمكي كلام طويل في ذلك لا طائل تحته.
تنبيه: لعلك تدرك معي أن بين الآية الكريمة والحديث الشريف تعارضا، بل إن هذا التعارض موجود في الحديث ذاته، فقول الشيطان المذكور إنما هو بعد إدخال أهل الجنة الجنة، وإدخال أهل النار النار، والفراغ من الحكم بين العباد، والحديث الشريف نص في الشفاعة العظمى بدليل قول عيسى عليه الصلاة والسّلام: هل أدلكم على النبي، وإني إزاء هذا التعارض