أفصح من هذا، ألا ترى: أن أصل الكلام: يا رب قد شخت؛ إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن، وشيب الرأس المتعرض لهما.
هذا؛ والشيب، والشيبة: بياض الشعر، والمشيب عبارة عن الحيوان في زمان تكون قوته فيه غير غريزية، أما الشباب فهو الزمن الذي تكون فيه حرارة الحيوان الغريزية مشبوبة؛ أي: قوية مشتعلة. هذا قول الأصمعي. وقال الجوهري: الشيب، والمشيب بمعنى: واحد.
{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: عودتني الإجابة فيما مضى، وأرجو أن لا تخيبني هذه المرة، يقال: سعد فلان بحاجته: إذا ظفر لها، وشقي إذا خاب ولم ينلها، ومن حق الكريم أن لا يخيب رجاء من قصده، وأنت يا الله أكرم الأكرمين. هذا؛ وقد كرر لفظ (رب) لمزيد التأكيد، والإلحاح في الطلب، والله يحب الملحّين في الدعاء على عكس ابن آدم الذي يغضب، إن سئل مرة بعد مرة، ورحم الله من يقول:[الكامل]
لا تسألنّ بنيّ آدم حاجة... وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله... وبنيّ آدم حين تسأل يغضب
تنبيه: قال مكي بن أبي طالب القيسي: ونداء الرب قد كثر حذف (يا) النداء منه في القرآن الكريم، وعلة ذلك: أن في حذفها من نداء الرب فيه معنى التعظيم له، والتنزيه، وذلك: أن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد؛ فمعناه: تعال يا زيد! أدعوك يا زيد! فحذفت (يا) من نداء الرب ليزول معنى الأمر، وينقص؛ لأن (يا) تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم، والإجلال، والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن، والكلام في نداء الرب لذلك المعنى. هذا؛ وانظر الآية رقم [٨] من سورة (الإسراء) لشرحه، واشتقاقه.
الإعراب:{قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {زَكَرِيّا} عليه السّلام. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، وفيه لغات، فمنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول: يا ربّي، ومنهم من يثبتها ويحركها بالفتحة، فيقول: يا ربّي، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول: يا ربّا، ومنهم من يقول: يا ربّ بضم الباء، ففيه خمس لغات، ويزاد سادسة، وهي حذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الباء، دليلا عليها، فيقول: يا ربّ. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {وَهَنَ:} ماض. {الْعَظْمُ:}
فاعله. {مِنِّي:} متعلقان بمحذوف حال من العظم، وجملة:{وَهَنَ..}. إلخ في محل رفع خبر (إنّ). {وَاشْتَعَلَ:} ماض. {الرَّأْسُ:} فاعله. {شَيْباً:} تمييز نسبة. وقيل: هو مفعول مطلق