للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالوا: إنه عليه السّلام كان في نادي قومه يقرأ: {وَالنَّجْمِ،} فلما بلغ: {وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى} جرى على لسانه تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. ولم يفطن له؛ حتى أدركته العصمة، فتنبه عليه، وقيل: نبهه جبريل عليه السّلام، فأخبره: أن ذلك كان من الشيطان. وهذا القول غير مرض؛ لأنه لا يخلو إما أن يتكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بها عمدا، وهذا لا يجوز؛ لأنه كفر، ولأنه بعث طاعنا للأصنام، لا مادحا لها. أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم جبرا، بحيث لا يقدر على الامتناع منه. وهو ممتنع؛ لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره، لقوله تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} ففي حقه أولى. أو أجرى ذلك على لسانه سهوا، وغفلة، وهو مردود أيضا؛ لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي، ولو جاز ذلك؛ لبطل الاعتماد على قوله؛ ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وقال: {إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ}.

فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحد، وهو أنه عليه الصلاة والسّلام سكت عند قوله: {وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوقع عند بعضهم: أنه عليه السّلام هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السّلام، وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام، ويسمع كلامه، فقد روي: أنه نادى يوم أحد: ألا إن محمدا قد قتل، وقال يوم بدر كما حكى الله تعالى عنه: {لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ}. هذا؛ وانظر شرح هذه الآية برقم [٤٨] من سورة (الأنفال)، وقد رأيت: أنه تشخص بشخص رجل كبير السن ليلة الهجرة المباركة، ودخل على المؤتمرين، واشترك في المشاورة بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. انظر الآية رقم [٣٠] من سورة (الأنفال).

هذا؛ ولمّا قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة (النجم)؛ سجد في آخرها لآية سجدتها، وسجد معه من حضر من المسلمين، والمشركين. فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ {وَالنَّجْمِ} فسجد فيها، وسجد من كان معه غير أنّ شيخا من قريش أخذ كفّا من حصى، أو تراب فرفعه إلى جبهته، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. أخرجه البخاري، ومسلم.

وهذا صريح بأن المشركين سجدوا معه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه القصة حدثت بعد هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، فأشيع أن أهل مكة أسلموا جميعا، وبلغ الخبر الذين كانوا بأرض الحبشة ففرح المسلمون، ورجعوا إلى مكة، ولكنهم رأوا قريشا لا تزال على دينها، وقد اشتدوا، وأمعنوا في إيذاء المسلمين المستضعفين، ولمّا تبيّن لهم: أن قريشا لم يسلموا؛ رجعوا إلى الحبشة، وتسمى هذه الرجعة بالهجرة الثانية، فهاجر غالب المسلمين، فكانوا عند النجاشي ثلاثة وثمانين رجلا، وثماني عشرة امرأة، فبقوا عنده؛ حتى هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة المنورة، وحصلت غزوة بدر، وأحد، فذهبوا من الحبشة إلى المدينة، وكان يرأسهم جعفر بن أبي طالب، -رضي الله عنهم أجمعين-.

<<  <  ج: ص:  >  >>