الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء، وسمي السراب سرابا؛ لأنه يسرب، أي يجري كالماء، ولا يكون إلا في البرية، والأرض الفلاة في أيام القيظ الحارة، فيغتر به العطشان، والمسافر، وقد يريق ما معه من الماء اغترارا به، قال الشاعر:[الطويل]
فلمّا كففنا الحرب صارت عهودهم... كلمع سراب بالفلا متألّق
وقال آخر:[الطويل]
فكنت كمهريق الذي في سقائه... لرقراق آل فوق رابية صلد
و (القيعة) جمع: القاع، مثل: جيرة وجار. قاله الهروي. وقال أبو عبيدة: قيعة، وقاع واحد حكاه النحاس، والقاع: ما انبسط من الأرض، واتسع، ولم يكن فيه نبات، وفيه يكون السراب، والآل، وجمع قاع على: أقوع، وأقواع، وقيعان، وأصله: قوعان، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وقرئ: «(بقيعات)» {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً:} أي: يظنه، ويتوهمه العطشان ماء، وانظر (حسب) في الآية رقم [١٥]، وشرح {الْماءِ} في الآية رقم [٣٠] من سورة (الأنبياء).
{حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي: لم يجد ما قدره، وتوهمه ماء في مكان السراب، أو المعنى: لم يجده شيئا نافعا، فحذف الصفة، واكتفى بالموصوف، وهذا كثير في القرآن والكلام العربي. {وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ} أي: وجد الله بالمرصاد، أو وجد عقابه، {فَوَفّاهُ حِسابَهُ} أي:
جزاء عمله، قال امرؤ القيس:[الوافر]
فولّى مدبرا يهوي حثيثا... وأيقن أنّه لاقى حسابا
{وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ:} يحاسب العباد على كثرتهم، وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة، ووصف سبحانه نفسه بسرعة الحساب مع ما ذكر ليدل بذلك على كمال قدرته؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحتاج إلى آلة حاسبة، ولا إلى أمارة، ولا إلى مساعد، لا جرم كان قادرا على أن يحاسب جميع الخلائق في أقل من لمح البصر. وقيل: معناه: يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد، فبادروا إلى الطاعات، واكتساب الحسنات.
هذا؛ وفي الآية الكريمة مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين يؤملون ثواب أعمالهم، فإذا قدموا على الله تعالى يوم القيامة؛ وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر. ووجه التشبيه: أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، يعتقد: أن له ثوابا عند الله تعالى، وليس كذلك، فإذا وافى عرصات القيامة؛ لم يجد الثواب الذي كان يؤمله، بل وجد العقاب العظيم، والعذاب الأليم، فعظمت حسرته، وتناهى غمه، فشبه الله تعالى حاله بحال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في الأرض الفلاة؛ تعلق قلبه به، وأخذ يسعى إليه، فإذا جاء المكان الذي تراءى له فيه السراب لم يجد فيه شيئا، فكذلك الكافر يحسب أن عمله نافعه، فإذا احتاج