هذا؛ وفي مخاطبة الهدهد سليمان بهذا الكلام تنبيه له على أن في أضعف خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به ليكون لطفا له في ترك الإعجاب، ولتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر لديه علمه، وقال القرطبي: فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها؟ وكانت المسافة بينهما قريبة! وهي مسيرة ثلاث مراحل بين صنعاء ومأرب، فالجواب: أن الله عز وجل أخفى ذلك عنه لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية السابقة وأقول هنا: أرجع سليمان إلى مقر ملكه، وأخذ يراسلها وتراسله وهي في مقر ملكها، أم كان قريبا منها، كما ذكر القرطبي؟ فالله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي: بخبر يقين محقق، أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب أو الذبح. وقرأ الجمهور {سَبَإٍ} بالصرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة، وترك الصرف، فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر: [البسيط]
الواردون، وتيم في ذرى سبأ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
المعنى: الواردون هم وتيم في ذرى أرض سبأ مغلولين بأغلال من جلد الجواميس بحيث يعض أعناقهم، ومن لم يصرفه اعتبره اسما للقبيلة، أو للمدينة، وأنشد للنابغة الجعدي: [المنسرح]
من سبأ الحاضرين مارب إذ... يبنون من دون سيله العرما
فهو يمدح رجلا، ويقول: هو من قبيلة سبأ الحاضرين مدينة مأرب الذين بنوا السد، دون السيل، فالعرم هو السد، ومأرب اسم المدينة، وقيل: اسم قصر. هذا؛ وسبأ: اسم رجل، وهو سبأ بن يعرب بن قحطان أخي عدنان وقد جاء في الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن سبأ، فقال:
«رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة». ومعنى تيامن: سكن اليمن، ومعنى تشاءم: سكن الشام، فالذين تيامنوا هم: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وقشعم، وبجيلة.
والذين تشاءموا هم: لخم وجذام، وعاملة وغسّان، وانظر الآية رقم [١٥] وما بعدها من سورة (سبأ) ففيها فضل زيادة.
الإعراب: {فَمَكَثَ:} الفاء: حرف عطف. (مكث): فعل ماض، وفاعله يعود إلى الهدهد.
{غَيْرَ:} صفة ظرف محذوف، أي: مكانا غير بعيد، أو وقتا غير بعيد، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، أي: مكثا غير بعيد، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (تفقد...) إلخ لا محل لها مثلها. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الهدهد أيضا.
{أَحَطْتُ:} فعل، وفاعل. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُحِطْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره: