للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو تعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ..}. إلخ، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين. هذا؛ والفعل {تَحْزَنِي} في هذه الآية من باب: فرح، وطرب، فهو لازم، ويأتي من باب: دخل، وقتل، فيكون متعديا، كما يكون متعديا إذا أتى من الرباعي.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، وقالت لها: قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي، فعالجت قبالها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى، فارتعش كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها، ثم قالت لها: يا هذه ما جئت حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك، ولكن وجدت لابنك حبا، ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفظي ابنك، فإني أراه عدونا. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب.

فلفته بخرقة وألقته في التنور، وهو مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، فلمّا دخلوا؛ فتشوا فلم يجدوا شيئا ورأوا: أنّ التنور مسجور، ورأوا أن أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن في ثديها، فقالوا: ما أدخل القابلة؟ قالت: هي مصافية لي، فدخلت عليّ زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها، فقالت لأخته: أين الصبي؟ فقالت: لا أدري، فسمعت بكاء الصبي في التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فاحتملته.

ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الصبيان؛ خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتا له، ثم تقذف التابوت في النيل، فانطلقت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا، فقال النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: ابن لي أخبئه في هذا التابوت، وكرهت الكذب، ولم تقل: أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته، وانطلقت به، انطلق النجار إلى الذباحين؛ ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيديه، فلم تدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره، قال كبيرهم: اضربوه! فضربوه، وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه؛ رد الله عليه لسانه، فتكلم، فانطلق أيضا يريد الأمناء. فأتاهم؛ ليخبرهم، فأخذ الله لسانه، وبصره، فلم يطق الكلام، ولم يبصر شيئا، فضربوه، وأخرجوه، وبقي حيران، فجعل لله عليه: إن رد عليه لسانه، وبصره ألاّ يدل عليه، وأن يكون معه فيحفظه حيثما كان. فعرف الله صدقه، فرد الله عليه لسانه، وبصره، فخر لله ساجدا، فقال: يا رب دلني على هذا العبد الصالح، فدله عليه فآمن به، وصدقه. انتهى. بحروفه من الخازن، وفي الكشاف قريب منه. أقول: وهذا النجار هو مؤمن آل فرعون الذي سيأتي ذكره في سورة (غافر) -إن شاء الله تعالى-بقوله جل شأنه: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ..}. إلخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>