ثم قال: لا سيما وإن أشعر نفسه: أن هذا ربما يكون آخر عمله، وهذا أبلغ في المقصود، وأتم في المراد، فإن الموت ليس له سن محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرض معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه. وروي عن بعض السلف: أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد، واصفر لونه، فكلّم في ذلك، فقال: إني واقف بين يدي الله تعالى، وحقّ لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع ملك الملوك. فهذه صلاة تنهى صاحبها، ولا بد عن الفحشاء، والمنكر. ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء، لا خشوع فيها، ولا تذكر، ولا فضائل، كصلاتنا-وليتها تجزي-فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص، تبعده من الله تعالى؛ تركته الصلاة يتمادى على بعده. انتهى. والمعنى: إن الصلاة لم تؤثر في تقريبه من الله، بل تتركه على حاله، ومعاصيه من الفحشاء، والمنكر، والبعد، فلم تزده الصلاة إلا تقرير البعد الذي كان سبيله.
وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث:«لم تزده من الله إلا بعدا، ولم يزدد بها من الله إلا مقتا». إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء، والمنكر لا قدر لصلاته؛ لغلبة المعاصي على صاحبها. انتهى. قرطبي.
{وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} أي: ذكر الله لكم بالثواب، والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم، وصلواتكم. وقال معناه ابن مسعود، وابن عباس، وأبو الدرداء، وأبو قرّة، وسلمان، والحسن-رضي الله عنهم أجمعين-؛ وهو اختيار الطبري. وقيل: ذكركم الله في صلاتكم، وفي قراءة القرآن أفضل من كل شيء. وقيل: المعنى: لذكر الله باللسان بسائر أنواعه من تحميد، وتهليل، وتسبيح، وتكبير وغير ذلك أفضل من أي عمل كان. واستدل عليه بما رواه أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«ألا أنبّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذّهب، والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟». قالوا: بلى، قال:«ذكر الله». أخرجه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم، وغيرهم.
والحديث القدسي الذي خرجه الشيخان عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله: أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ؛ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ شبرا؛ تقرّبت إليه ذراعا، وإن تقرّب إليّ ذراعا؛ تقرّبت إليه باعا، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة». وخذ قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ..}. إلخ.
وقيل: و {وَلَذِكْرُ اللهِ} يريد: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، كما قال تعالى:{فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ} وإنما قال: ولذكر الله؛ ليستقل بالتعليل، كأنه قال: وللصلاة أكبر؛ لأنها ذكر الله، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-، قال: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر