فقد جمعت الدعوة في هذه الآية كلّ خير في الدنيا، وصرفت كل شرّ، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كلّ مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة صالحة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وجار صالح، وثناء جميل، وغير ذلك، وأما الحسنة في الآخرة؛ فأعلى ذلك دخول الجنّة، وما فيها من النعيم المقيم، والأمن من الفزع الأكبر في عرصات القيامة، وتيسير الحساب، وغير ذلك من الأمور الآخرة الصّالحة. وأما النّجاة من النّار؛ فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدّنيا، من اجتناب المحارم، والمآثم، وترك الشّبهات وأكل الحرام.
عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال:«أربع من أعطيهنّ؛ فقد أعطي خيري الدّنيا والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها، وماله». رواه الطّبراني بإسناد جيد.
ولهذا وردت السنة بالتّرغيب بالدّعاء في هذه الآية، فقال البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أنس-رضي الله عنه-: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهمّ ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار»، وكان أنس-رضي الله عنه-إذا أراد أن يدعو بدعوة؛ دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء؛ دعا بها فيه.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: إنّ عند الرّكن اليماني ملكا قائما منذ خلق الله السّماوات والأرض، يقول: آمين، فقولوا:{رَبَّنا آتِنا..}. إلخ. وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني، وهو يطوف بالبيت، فقال: حدثني أبو هريرة-رضي الله عنه-: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وكّل به سبعون ملكا، فمن قال: اللهمّ إنّي أسألك العفو والعافية في الدّنيا والآخرة، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار؛ قالوا: آمين». أخرجه ابن ماجة في السّنن.
بعد هذا؛ ف ({قِنا}) من الوقاية، وهي التّحرّز من المهالك في الدنيا، والآخرة، فهو فعل دعاء، وصيغته صيغة أمر، فهو من: وقى، يقي اللفيف المفروق، فتحذف فاؤه من المضارع مثل كلّ فعل مثال، مثل: وعد، يعد، و: وزن، يزن... إلخ، والأمر منه: اوقنا، حذفت منه الواو، كما حذفت من مضارعه، واستغني عن همزة الوصل لتحرك الحرف المبدوء به، وتحذف لامه مع فائه لبنائه على حذف حرف العلّة، مثل كل فعل ناقص معتل الآخر، مثل: اسع، وادع، وارم، فيبقى فعل الأمر باللفظ حرفا واحدا (ق) ومثله: وعى، يعي، ع، ووفى، يفي، ف، وولي، يلي، ل، ووطى، يطي، ط. وإذا لم يتصل به ضمير؛ تلحقه هاء السكت، فتقول: فه، قه، له عه، طه، وبه يلغز، فيقال:[الرجز]
في أيّ لفظ يا نحاة الملّه... حركة قامت مقام الجمله؟
الإعراب:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية السابقة. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من: