{وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} أي: عهدا وثيقا عظيما على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا. والميثاق: هو اليمين بالله تعالى، فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأول باليمين. وقيل: الأول هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوة، ونظير هذا قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} الآية رقم [٨١] من سورة (آل عمران). هذا؛ وفي الآية استعارة مكنية؛ حيث شبه الميثاق بجرم محسوس، واستعار له شيئا من صفات الأجرام، وهو الغلظ؛ للتنويه بعظم الميثاق، وشدته، ومثل الآية قول أبي ذؤيب الهذلي:[الكامل] وإذا المنية أنشبت أظفارها... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
هذا؛ والميثاق: العهد. وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة: الأول: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم في قديم الأزل بأن يقروا بربوبيته، ويعترفوا بألوهيته، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..}. إلخ الآية رقم [١٧٢] من سورة (الأعراف). والعهد الثاني خص به النبيين، والمرسلين بأن يبلغوا الرسالة، ويقيموا الدين، وهو المذكور في هذه الآية. والعهد الثالث:
خص به العلماء من كل أمة، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} الآية رقم [١٨٧] من سورة (آل عمران)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [١٣] من سورة (الشورى) تجد ما يسرك. هذا؛ و {مِيثاقَ} أصله: موثاق، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، ومثله قل في: ميعاد، وميزان.
الإعراب:(إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف لهذا المقدر، وأجاز السمين عطفه على محل {فِي الْكِتابِ} فيكون متعلقا ب: {مَسْطُوراً} معنى، التقدير: كان هذا الحكم مسطورا في الكتاب، وقت أخذنا... {أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {مِنَ النَّبِيِّينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{مِيثاقَهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَخَذْنا..}. إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها. (منك): جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما؛ إذ التقدير: وأخذنا منك. {وَمِنْ نُوحٍ:} معطوفان على ما قبلهما. {وَإِبْراهِيمَ:} معطوف على {نُوحٍ} مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {وَمُوسى وَعِيسَى:} معطوفان أيضا، وعلامة الجر فيهما الكسرة المقدرة على الألف للتعذر. {اِبْنِ:} صفة عيسى، أو بدل منه، و {اِبْنِ} مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي، وجملة:{وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً:} معطوفة على سابقتها، فهي في محل جر مثلها، ومؤكدة لها.