فقال لأبي بكر: لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، وهي زوجته، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:«هن حولي، كما ترى يسألنني النفقة». فقام أبو بكر-رضي الله عنه-إلى عائشة، فوجأ عنقها، وقام عمر-رضي الله عنه-إلى حفصة، فوجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده! قلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده.
ثم اعتزلهن شهرا، أو تسعا وعشرين، حتى نزلت هاتان الآيتان:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ} إلى قوله تعالى {أَجْراً عَظِيماً} قال: فبدأ بعائشة، فقال:«يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمرا، أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك». قالت: وما هو يا رسول الله؟! فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله، ورسوله، والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت! قال:«لا تسألني امرأة منهنّ إلاّ أخبرتها، إنّ الله لم يبعثني معنّتا، ولا متعنّتا، ولكن بعثني معلّما ميسّرا». أخرجه مسلم، ولما قالت عائشة ما تقدم رؤي الفرح في وجهه صلّى الله عليه وسلّم.
قال العلماء: وأما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة أن تشاور أبويها؛ لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها: أنهما لا يشيران عليها بفراقه.
هذا؛ ولما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه بذلك تابعن عائشة على اختيارها الله، ورسوله، والدار الآخرة.
فشكر الله اختيارهن، وكافأهن على ذلك حيث قصر نبيه عليهن، وحجر عليه التزوج بغيرهن حيث قال جل ذكره:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ..}. إلخ الآية رقم [٥٢] الآتية.
تنبيه: اختلف العلماء في هذا الخيار، هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار، أم لا؟ فذهب الحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا؛ فارقهن، لقوله تعالى:{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة رضي الله عنها: لا تعجلي؛ حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق، ولو اخترن أنفسهن؛ كان طلاقا.
التفريع على حكم الآية: اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر، وابن مسعود، وابن عباس-رضي الله عنهم-: إذا خير الرجل امرأته، فاختارت زوجها لا يقع شيء، وإن اختارت نفسها؛ يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، والشافعي، وأصحاب الرأي، إلا أن أصحاب الرأي يقع عندهم طلقة بائنة؛ إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعية، وأكثر أهل العلم على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.
فعن مسروق-رحمه الله تعالى-، قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة، أو مائة، أو ألفا بعد أن تختارني ولقد سألت عائشة، رضي الله عنها، فقالت: خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما كان طلاقا.