أسال له الله عينا يستعملها فيما يريد، وقد أسال الله لسليمان النحاس، وأجراه له، كما ألان الحديد لوالده داود، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، وسبب ذوبانه-والله أعلم-أن الأرض التي فتحت فيها العين مصطهرة بالنار فالنحاس المختلط بصخور تلك الأرض يصهر، ويقذف من فوهة تلك العين سائلا، فيأتي عمّال سليمان، ويأخذونه للانتفاع به في الصناعات، ونحوها مما يحتاج إليه سليمان.
{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: بأمر ربه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: سخر الله الجن لسليمان، عليه الصلاة والسّلام، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به. {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا:} ومن يعدل ويخالف الذي أمرناه به من طاعة سليمان. {نُذِقْهُ:} من عذاب السعير: قيل: هذا في الآخرة. وقيل: في الدنيا، وذلك: أن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته.
هذا؛ وقد ذكر في سفر الملوك الأول العمائر التي قام بعملها سليمان، منها: سور أورشليم، وحاصور، ومجد، وجازر، وبيت حوران السفلى، وبعله، وتدمر في البرية، كل ذلك عدا المخازن، ومدن المركبات، ومدن الفرسان، وما بناه في لبنان، وغيرها من سائر مملكته، ومن نظر إلى هذه الأعمال، وفخامتها، وضخامة أحجارها؛ لم يستبعد أن يكون للجن عمل عظيم في ذلك، وخاصة تدمر، وبعض آثارها ماثل إلى اليوم، وقد ذكر النابغة الذبياني تسخير الجن لسليمان في شعره الذي يعتذر به إلى النعمان؛ إذ يقول:[البسيط]
ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلاّ سليمان إذ قال الإله له... قم في البريّة فاحددها عن الفند
وخيّس الجنّ إنّي قد أذنت لهم... يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد
هذا من قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-باختصار. وهذه الأبيات من معلقة النابغة رقم [٢١] وما بعد. انظرها بشرحنا، وإعرابنا لها.
الإعراب:{وَلِسُلَيْمانَ:} الواو: حرف عطف. (لسليمان): جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وسخرنا لسليمان، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. {الرِّيحَ:} مفعول به للفعل المحذوف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{آتَيْنا داوُدَ..}. إلخ لا محل لها مثلها، وعلى قراءة «(الريح)» بالرفع فهو مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{غُدُوُّها:} مبتدأ، والتقدير: مسير غدوها شهر، ومسير رواحها شهر. و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {شَهْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من: