ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث الأسفل، فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك.
فبقوا بعدها مدة، فلما طغوا، وكفروا؛ سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد، فنقب السد من أسفله، فأغرق الله جنانهم، وأخرب أرضهم. وقال وهب: رأوا فيما يزعمون، ويجدون في علمهم: أن الذي يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التفريق، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر، فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة، التي كانت عندها، فتوغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل، وهم لا يعلمون بذلك، فلما جاء السيل وجد خللا، فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم، فأغرقها، ودفن بيوتهم الرمل، فغرقوا، ومزقوا كل ممزق حتى صاروا مثلا عند العرب، يقولون: ذهبوا أيدي سبأ.
وتفرقوا أيادي سبأ. قال كثير عزة: [الطويل]
أيادي سبا-يا عزّ-ما كنت بعدكم... فلن يحل للعينين بعدك منظر
وهذا هو الشاهد رقم [٥٢١] من كتابنا: «فتح القريب المجيب». وخذ قول محمد اليمني الملقب بنجم الدين. [الطويل]
ولا تحتقر كيد الضعيف فربّما... تموت الأفاعي من سموم العقارب
وقد هدّ قدما عرش بلقيس هدهد... وخرّب حفر الفأر سدّ مأرب
{وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ:} المذكورتين. {جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ:} قيل: هو شجر الأراك، وثمره البرير. وقيل: كل نبت أخذ طعما من المرارة، حتى لا يمكن أكله فهو خمط. وقيل: هو ثمر شجر، يقال له: فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك، ولا ينتفع به. {وَأَثْلٍ:} قيل:
هو الطرفاء. وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا، ومنه اتخذ منبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وللأثل أصول غليظة، يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة: أثلة، والجمع أثلات. وقيل: هو شجر السّمر.
{وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ:} هو شجر معروف ينتفع بورقه في الغسل، وثمره النبق، ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به؛ بل كان سدرا بريا لا يصلح لشيء. قيل: كان شجرهم من خير الشجر، فصيره الله من شر الشجر بسبب سوء أعمالهم.
هذا؛ وما أبدلهم الله به من الجنتين لا يسمى جنة، وبستانا، ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق عليهما لفظ الجنة للمشاكلة، وازدواج الكلام كقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وقد مر معنا كثير من ذلك، وقد نبهت عليه في محاله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.