للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: أما ما أنفق في معصية؛ فلا خلاف: أنه غير مثاب عليه، ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا، يكنّ الإنسان، ويحفظه؛ فذلك مخلوف عليه، ومأجور ببنيانه، وكذلك حفظ أسرته، وستر عورته، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء». انتهى.

قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: من كان عنده من هذا المال؛ فليقتصد، فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقر، ولا يتأولنّ {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فإن هذا في الآخرة، ومعنى الآية: ما كان من خلف؛ فهو منه. انتهى. خازن.

أقول: المعيار، والميزان القسط قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} الآية رقم [٢٩] من سورة (الإسراء)، وقوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} الآية رقم [٦٧] من سورة (الفرقان).

{وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} أي: خير من يعطي، ويرزق؛ لأن كل ما رزق غيره: من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق مملوكه، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله، أجراه الله على أيدي هؤلاء، وهو الرزاق الحقيقي، الذي لا رازق سواه، وهو خالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني، وجعلني ممن يشتهي، فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهي، فسبحان من خزائنه لا تفنى، ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود؛ فهو الرازق حقيقة، كما قال جل ذكره: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وينبغي أن تعلم: أنّ (الرّزّاق) صيغة مبالغة لم يسم به أحد غيره تعالى، وأما الرازق؛ فقد يطلق على غيره من العباد مجازا؛ كما قدمت آنفا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [٣٦] ما عدا قوله: {مِنْ عِبادِهِ} فهما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من مفعول:

{يَشاءُ} المحذوف. و (من) بيان لما أيهم في: (من) وما عدا قوله: {لَهُ} فهما جار ومجرور متعلقان بالفعل: (يقدر)، وجملة: {قُلْ إِنَّ..}. إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {أَنْفَقْتُمْ:}

فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {مِنْ شَيْءٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: (ما)، و {لِمَنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُخْلِفُهُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره: «هو»، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:

<<  <  ج: ص:  >  >>