ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطا؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله، ثم رتبهم على مراتب، فقال:
{فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ:} وهو المرجأ لأمر الله. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ:} هو الذي خلط عملا صالحا، وآخر سيئا. {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ:} يضم إلى العمل التعليم، والإرشاد إلى العمل، وهذا التأويل يوافق التنزيل، فإنه تعالى قال في الآية رقم [١٠١] من سورة (التوبة): {وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ..}. إلخ. وقال بعده في الآية رقم [١٠٣] منها: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا..}. إلخ. وقال بعده في الآية رقم [١٠٧] منها: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ..}. إلخ.
ويوافق الحديث، فقد روي عن عمر-رضي الله عنه-: أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له». وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا، ثم يدخل الجنة، وأما الظالم لنفسه فيحبس؛ حتى يظنّ: أنه لا ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة». رواه أبو الدرداء.
ويوافق الأثر، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أنه قال: السابق: المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر بالنعمة غير الجاحد لها؛ لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة.
ويوافق التأويل السابق قول السلف، فقد قال الربيع بن أنس-رحمه الله تعالى-: الظالم:
صاحب الكبائر. والمقتصد: صاحب الصغائر. والسابق: المجتنب لهما. وقال الحسن البصري: الظالم: من رجحت سيئاته. والسابق: من رجحت حسناته. والمقتصد: من تساوت حسناته، وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية، فقال: كلهم مؤمنون، وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا..}. إلخ الآية رقم [٣٦] الآتية.
وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى الله من عباده، فإنه قال: {فَمِنْهُمْ} (ومنهم)، {وَمِنْهُمْ} والكل راجع إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} وهم أهل الإيمان. وعليه الجمهور، وإنما قدم الظالم؛ للإيذان بكثرة الظالمين لأنفسهم بالمعاصي، والسيئات، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل، وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم؛ لئلا ييأس من فضله. وقيل: إنما قدمه؛ ليعرفه: أن ذنبه لا يبعده من ربه، وليس التقديم للتشريف، ولا يقتضيه. قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} الآية رقم [٢٠] من سورة الحشر.
وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر؛ قدموا الأدنى كالآية المذكورة، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية رقم [١٦٧] من سورة (الأعراف)، وقوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} الآية رقم [٤٩] من سورة (الشورى).
وقيل: إن أول الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة. وقال سهل بن عبد الله: السابق: العالم.
والمقتصد: المتعلم. والظالم: الجاهل. وقال أيضا: السابق: الذي اشتغل بمعاده. والمقتصد: