في سورة (الروم) رقم [٧]: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، والظلف عن الملاذ، والشهوات؛ لم يلتفتوا إليها، وصغروها، واستهزؤوا بها، واعتقدوا: أنه لا علم أنفع، وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. أو علم الفلاسفة، والدهريين، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله؛ دفعوه، وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط: أنه سمع بموسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. أو المراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم، فرح ضحك منه، واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤوا بالبينات، وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين، ويدل عليه قوله:{وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}. أو الفرح للرسل؛ أي: الرسل لما رأوا جهلهم، واستهزائهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم، وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم، واستهزائهم. انتهى. نسفي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [٨٥] الآتية.
هذا؛ وفي الآية الكريمة فن التهكم، وهو في اصطلاح البيانيين: الاستهزاء، والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير، والوعد في موضع الوعيد، والعلم في موضع الجهل، تهاونا من القائل بالمقول له، واستهزاء به، قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى: {بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} الآية رقم [٦٦] من سورة (النمل)، وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون:
لا نبعث، ولا نعذب، وفي قوله تعالى حكاية عن قول الكافر المنكر للحساب، والجزاء، والبعث رقم [٥٠] من سورة (فصلت): {وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى،} وفي قوله تعالى: {وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} رقم [٣٦] من سورة (الكهف). وكانوا يفرحون بذلك، ويدفعون به البينات، وعلم الأنبياء، وهذا صريح قوله تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} رقم [٥٣] من سورة (المؤمنون)، وما أحسن قول الحماسي:[الوافر]
أتاني من أبي أنس وعيد... فثلّ تغيّظ الضّحاك جسمي
ثل: أهلك، والتغيظ: الغيظ، والحنق، والغضب، وكنى عن أبي أنس بالضحاك، الذي كان ملكا قصدا للسخرية، والاستهزاء به.
الإعراب:{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [٢٥]. {جاءَتْهُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {رُسُلُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة.
{بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {رُسُلُهُمْ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة