لم يؤذها الدّيك بصوت تغريد... ولم يعالج غلقها بإقليد
أو هو جمع: مقليد، مثل: منديل، ومناديل. وعلى جميع الاعتبارات في الكلام استعارة بديعة، نحو قولك: بيد فلان مفتاح الأمر، وليس ثمّ مفتاح، وإنّما هو عبارة عن شدّة تمكّنه من ذلك الشيء. والمعنى: أنّ الله تعالى مالك أمر السموات، والأرض، وحافظها، ومدبّر أمرها. وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله تعالى:{لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فقال: «يا عثمان! ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير». والمعنى على هذا: أنّ لله هذه الكلمات يوحّد بها، ويمجّد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلّم بها؛ فقد أصابه، هذا؛ وقيل: مقاليد السموات: خزائن الرحمة، والرزق، والمطر، ومقاليد الأرض: ما يخرج منها من نبات.
{يَبْسُطُ الرِّزْقَ:} يغني، ويوسع الرزق، ويعطي المال من يشاء التوسيع عليه. {وَيَقْدِرُ:}
يضيق الرزق، ويقلّله على من يشاء من عباده، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة، ولذا قال جلّ ذكره في سورة (الإسراء) رقم [٣٠]: {إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: ذو خبرة بعباده، وبمن يصلحه التوسيع في الرزق، ومن يفسده ذلك، وبمن يصلحه الضيق والإقتار في الرزق، ومن يهلكه ذلك، وهو ذو بصر ومعرفة بتدبير عباده، وسياستهم، فمن العباد من لا يصلح له إلاّ الغنى، ولو أفقره؛ لفسد، ومنهم من لا يصلح له إلاّ الفقر، ولو أغناه؛ لفسد.
قال الله تعالى في الحديث القدسي:«إن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه». كذا ذكره ابن كثير عن أنس مرفوعا. هذا؛ وبين:{يَبْسُطُ} و (يقدر) مقابلة، ومطابقة، وهي من المحسنات البديعية، وانظر الآية [٢٧].
وينبغي لكل عاقل أن يعلم: أنّ سعة الرزق قد تكون مكرا، واستدراجا، وتقتيره رفعة، وإعظاما، ويوقن: أنّ المال هو إعطاء الله للعبد، لا علاقة له بقوة الأجسام، ولا بشدة الفهم، وحدة الذكاء، ورحم الله الإمام الشافعي؛ إذ يقول:[الوافر]
تموت الأسد في الغابات جوعا... ولحم الضّأن تأكله الكلاب
وقال:[البسيط]
كم من قويّ قويّ في تقلّبه... مهذّب الرأي: عنه الرزق منحرف
كم من ضعيف ضعيف في تقلبه... كأنّه من خليج البحر يغترف
هذا دليل على أنّ الإله له... في الخلق سرّ خفيّ ليس ينكشف