المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين: إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور، وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير، والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي-رحمه الله تعالى-: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفساق.
الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} سورة (البقرة) رقم [٢٣٧]. {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} وقال أبو السعود: وهو وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران، فإن كلا في موضعه محمود.
هذا؛ وقيل العفو، والتسامح إغراء للسفيه. وقال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز، والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلّ بالمروءة، ولا واجبا، كما إذا انتهكت حرمات الله؛ فالواجب حينئذ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي-رحمه الله تعالى-: «من استغضب، ولم يغضب؛ فهو حمار». وقال الشاعر:[الطويل]
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه... إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم
وقال آخر:[الطويل]
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وقال عنترة بن شداد العبسي:[الكامل]
وإذا بليت بظالم كن ظالما... وإذا رأيت ذوي الجهالة فاجهل
وقال عمرو بن كلثوم التغلبي:[الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وصفوة القول: إن للحلم، والعفو، والصفح محالّ، وللجهل، والانتقام من المسيء محالّ، فقد انتقم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أبي عزّة الجمحي، ومن النضر بن الحارث؛ حيث أمر بقتلهما، وعفا صلّى الله عليه وسلّم عن غورث بن الحارث، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه، وهو نائم، وعفا صلّى الله عليه وسلّم عن لبيد بن الأعصم، الذي سحره، وعفا عن المرأة التي وضعت له السم في ذراع الشاة على الأصح. وينبغي أن تتفهم ما يلي: وفد النابغة الجعدي-رضي الله عنه-على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومدحه بقصيدة طويلة، وفيها حكم، ومواعظ، ومن أبياتها ما يلي:[الطويل]
ولا خير في حلم إذا لم يكن له... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا