للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصورة. وقيل: لأنّ الجزاء يسوء من ينزل به. وما في الآيات الثلاث يسمى مشاكلة؛ أي:

أطلق على المجازاة ما يشبه السيئة المبدوء بها، والاعتداء المبدوء به. هذا؛ والمراد: مقابلة القبيح بمثله؛ إذا قال: أخزاك الله؛ فقل له: أخزاك الله. وإذا شتمك؛ فاشتمه بمثلها، ولا تعتد.

وقيل: هو في القصاص في الجراحات، والدماء يقتص بمثلها ما جني عليه. وبالجملة فالانتقام من المعتدي، والظالم مشروع. هذا؛ وخذ قول ابن الرقعمق في المشاكلة: [الكامل]

أصحابنا قصدوا الصّبوح بسحرة... وأتى رسولهم إلي خصيصا

قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه... قلت: اطبخوا لي جبّة وقميصا

وقال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلّقته رقم [١١٤]: [الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فسمى جزاء الجهل جهلا لازدواج الكلام، وحسن تجانس اللفظ، فالجملة الثانية على مثل لفظ الأولى، وهي تخالفها في المعنى؛ لأنّ ذلك أخف على اللسان، ومن ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا». فمعناه: أنّ الله تعالى لا يقطع عنكم فضله؛ حتى تملوا من مسألته، وتزهدوا فيها؛ لأنّ الله لا يملّ في الحقيقة، وإنّما نسب الملل إليه؛ لازدواج اللفظين.

وقال السدّي: إنّما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به؛ أي: كما كانت العرب تفعله. وتأول الشافعي-رحمه الله تعالى-في هذه الآية: أنّ للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه، واستشهد على ذلك بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لهند زوج أبي سفيان: «خذي ما يكفيك، وبنيك بالمعروف». فأجاز لها أخذ ذلك من غير علمه.

أقول: وقوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [٣٣]: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} دليل واضح، وجلي على جواز الانتقام، والأخذ بالثأر بشرط عدم مجاوزة الحق.

{فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: من ترك القصاص، وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو؛ {فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أي: إن الله يثيبه، ويأجره على عفوه، وتجاوزه عن حقه.

قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة. هذا؛ وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين -رضي الله عنهم-قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس، فيقال: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: قبل الحساب؟ يقولون: نعم، يقولون: من أنتم؟ يقولون: نحن أهل الفضل، يقولون:

وما كان فضلكم؟ يقولون: كنا إذا جهل علينا؛ حلمنا، وإذا ظلمنا؛ صبرنا، وإذا أسيء إلينا؛ عفونا، يقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. انتهى. قرطبي بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>