أتاك رجل يشكو إليك رجلا، فقل: يا أخي اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى! فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني ربي عزّ وجل، فقل له: إن كنت تقدر أن تنتصر؛ وإلاّ فارجع إلى باب العفو، فإنّه باب واسع، فإنّه {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. انتهى. أقول: عند العجز على الانتصار لا يعد هذا من باب العفو، وإنّما هو من باب المظلوم، الذي يكل أمره إلى الله آناء الليل، وأطراف النهار، وخذ ما يلي:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: إنّ رجلا شتم أبا بكر-رضي الله عنه-، والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس، وجعل يعجب، ويبتسم، فلمّا أكثر الرجل؛ ردّ عليه الصديق بعض قوله، فغضب النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقام من مجلسه، فلحقه الصديق-رضي الله عنه-، فقال: يا رسول الله! إنّه كان يشتمني؛ وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله؛ غضبت، وقمت! قال: «إنّه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان (أي: وذهب الملك) فلم أكن لأقعد مع الشيطان». ثم قال:«يا أبا بكر! ثلاث كلّهنّ حقّ: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله؛ إلاّ أعزّه الله تعالى بها، ونصره. وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة؛ إلاّ زاده الله بها كثرة. وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة؛ إلاّ زاده الله عزّ وجل بها قلة». وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو مناسب للصديق-رضي الله عنه-. انتهى. مختصر ابن كثير.
هذا؛ والإشارة بقوله تعالى:{إِنَّ ذلِكَ} راجعة إلى الصبر، والغفران. {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: مما عزمه الله، وأمر به، وقطعه قطع إيجاب، وإلزام. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:«لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل». أي: لم يقطعه، ويجزم به بالنية. ومنه قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه». وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لمن تحت يده: عزمت عليك إلاّ فعلت كذا! إذا قال ذلك؛ لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله، ولا مندوحة في تركه، وحقيقته أنّه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور؛ أي: مقطوعاتها، ومفروضاتها، ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل، أصله من عازمات الأمور من قوله تعالى:{فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} كقولك:
جدّ الأمر، وصدق القتال.
هذا؛ ودخلت لام الابتداء هنا، وهي للتوكيد، ولم تدخل في سورة (لقمان) رقم [١٧] ولا في (آل عمران) رقم [١٨٦] لأنّ الصبر على مكروه حدث بظلم، كقتل أشد من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم، كموت ولد. كما أن العزم على الأول آكد منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول، فكان أنسب بالتوكيد، وما في (لقمان) و (آل عمران) من القبيل الثاني، فكان أنسب بعدمه. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.