للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوثنية ذلك، فأشركوا بربهم، واعتقدوا: أنّ الضلالة وقعت بمشيئة الخلق على خلاف مشيئة الخالق، فالذين أشركوا بالملائكة أرفع منهم درجة؛ لأنّ هؤلاء أشركوا أنفسهم الدنية في ملك ربهم المتوحد بالربانية، جلّ، وعلا، فإذا وضح ما قلناه، فإنّما رد الله عليهم مقالتهم هذه؛ لأنّهم توهموا: أنها حجة على الله، فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين: أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب، وتخرص محض، فقال: {ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} و {وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ}.

وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير، وذلك قوله في سورة (الأنعام): {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} رقم [١٤٨].

فبين الله تعالى: أنّ الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل، والإشراك بالله اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم: {لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا} فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال بحال أوائلهم، ثم بين: أنّه معتقد نشأ عن ظن خلب، وخيال مكذب، فقال: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ}. ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله، أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ} رقم [١٤٩] من سورة (الأنعام)، ثم أوضح: أنّ الردّ عليهم ليس إلاّ في احتجاجهم على الله بذلك، لا لأن المقالة في نفسها كذب، فقال: {فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} تتمة الآية، وهو معنى قولهم: {لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا} من حيث أن {لَوْ} مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة، فدلّت الآية الأخيرة على أنّ الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم، ولو شاء هدايتهم؛ لما ضلّوا.

فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، والنور اللائح، والمنهج الواضح، والذي يدحض به حجة هؤلاء مع اعتقاد: أنّ الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم، هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا، وتيسرا للهداية، وغيرها من الأفعال الكسبية، حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف؛ لأنّها اختيارية، يفرق بالضرورة بينهما وبين العوارض القسرية. فهذه الآية أقامت الحجة، ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة المحجة، ولما كانت تفرقة دقيقة، لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة، فلا جرم أنّ أفهامهم تبددت، وأفكارهم تبدلت، فغلت طائفة القدرية، واعتقدت: أنّ العبد فعّال لما يريد على خلاف مشيئة ربه.

وحارت الجبرية، فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة، ولا اختيار، وأنّ جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطرار. أما أهل الحق، فمنحهم الله من هدايته قسطا، وأرشدهم إلى الطريق الوسطى، فانتهجوا سبل السّلام، وساروا، ورائد التوفيق لهم إمام، مستضيئين بأنوار العقول

<<  <  ج: ص:  >  >>