للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا بقت الدنيا على المرء دينه... فما فاته منها فليس بضائر

فلا تزن الدنيا جناح بعوضة... ولا وزن رقّ من جناح لطائر

فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن... ولا رضي الدنيا عقابا لكافر

فإن قيل: لما بيّن الله تعالى: أنّه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سببا لاجتماع الناس على الكفر، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك لاجتماع الناس على الإسلام؟ فالجواب: لأنّ الناس على هذا التقرير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين؛ حتى إن كل من دخل في الإسلام، فإنّما يدخل لمتابعة الدليل، ولطلب رضوان الله تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.

وقال الزمخشري: فإن قلت: فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة؛ التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا، وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام، قلت: التوسعة عليهم مفسدة أيضا؛ لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبر؛ حيث جعل في الفريقين أغنياء، وفقراء، وغلب الفقر على الغنى. انتهى. جمل.

بعد هذا أقول: إن الله بيّن في كتابه العزيز: أنّه قد يعطي بعض الكافرين، والظالمين، والفاجرين، والفاسدين، والمفسدين ما يحبون من حطام الدنيا، وملذاتها، وشهواتها على سبيل الاستدراج، ولكن أخذه لهم يكون شديدا بعد ذلك، وعقابه لهم يكون أليما، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [١٨٢]: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وقال في سورة (مريم) رقم [٧٥]: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} وقال في سورة (القلم) رقم [٤٤]: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.

وبيّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أحاديثه الشريفة: «إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلاّ لمن أحبّ». وبيّن: أنّ الله قد يحرم عبده المؤمن من ملذّات الدنيا، ومشتهياتها؛ وهو يحبه حماية له من الافتتان بها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله عزّ وجل ليحمي عبده المؤمن من الدّنيا؛ وهو يحبّه كما تحمون مريضكم الطعام، والشراب». رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ وهو في غرفة كأنها بيت حمام، وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه، فبكيت، فقال: «ما يبكيك، يا عبد الله؟!».

قلت: يا رسول الله كسرى وقيصر يطؤون على الخز، والديباج، والحرير، وأنت نائم على حصير

<<  <  ج: ص:  >  >>