لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب، كقوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [٣٥]:
{وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} وفي الصحيحين عن حذيفة-رضي الله عنه-أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول:«لا تلبسوا الحرير، ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة». عاد الضمير على الفضة مفردا، ويلزم حكم الذهب بطريق الأولى على حدّ قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [٣٥]: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ}.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون». قالوا: فما بال الطّعام؟ قال:«جشاء، ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما يلهمون النّفس». وروى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال:«لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها». وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك، ويقاس على الأكل، والشرب سائر الاستعمال، وأيضا الاقتناء، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الذهب، والحرير:«هذان حرام لذكور أمتي، حلّ لإناثها».
هذا؛ و (الصحاف) جمع: صحفة، كالقصعة، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين، والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة: الكتاب، والجمع: صحف، وصحائف. {وَأَكْوابٍ:} جمع:
كوب، وهو وعاء مدور، لا أذن له، ولا عروة بخلاف الإبريق فإن له ذلك. هذا؛ وأتى بالأكواب جمع قلة، وبالصحاف جمع كثرة؛ لأنّ المعهود قلة أواني الشرب بالنسبة إلى أواني الأكل.
{وَفِيها} أي: الجنة. {ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ:} من الأشياء المعقولة، والمسموعة، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم عنه من الشهوات في الدنيا. {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ:} من الأشياء المبصرة؛ التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق. وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن رجلا قال: يا رسول الله! هل في الجنة من خيل، فإني أحب الخيل، قال:«إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت». قال: وسأله رجل، فقال: يا رسول الله! هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه، فقال:«إن يدخلك الله الجنة؛ يكن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك».
انتهى. قرطبي، وخازن. {وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ:} مقيمون لا تبرحون منها؛ لأنها لو انقطعت لتبغضت. وينبغي أن تعلم أنّ اللذة المذكورة شهوة لذة، لا شهوة جوع، أو عطش.
تنبيه: قال الصابوني في معرض كلامه على إعجاز القرآن: ثم انظر إلى الجزالة، والإيجاز في أسلوب القرآن، وقارنها بأروع أسلوب نطق به عربي، وهو أسلوب أفصح من نطق بالضاد،