قال الجمل-رحمه الله تعالى-: قالوا ذلك زعما منهم: أن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية، كما قالوا:{لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} رقم [٣١] من سورة (الزخرف) لأنّ معالي الأمور بنظرهم لا تنالها أيدي الأراذل، وهم سقاط عامتهم فقراء، وموال، ورعاة. وزل عنهم: أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية، والإقبال على الاخرة بالكلية، وأنّ من فاز بها؛ فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها؛ فماله منها من خلاق. انتهى.
أقول: وهذه مقالة الطغاة الفاسدين في كل زمان، ومكان، فقوم نوح قالوا له:{وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ..}. إلخ رقم [٢٧] من سورة (هود) وقالوا له في سورة (الشعراء) رقم [١١١]: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}. ومثل الاية الكريمة قوله تعالى:{وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} رقم [٥٣] من سورة (الأنعام)، انظر شرحها هناك.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} أي: بالقرآن، أو بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. والأول أقوى. {فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي: من قول الأقدمين، فهو على حد قولهم في كثير من الايات:{أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فلما لم يصيبوا الهدى بالقرآن، ولا بمن جاء به؛ عادوه، ونسبوه إلى الكذب، وقالوا: هذا إفك قديم. هذا؛ وقد قيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه؟ فقال: نعم، قال الله تعالى:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ،} ومثله قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [٣٩]: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ..}. إلخ.
الإعراب:{وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (قال)، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الإيمان المفهوم مما سبق. {خَيْراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:}
نافية. {سَبَقُونا:} ماض، وفاعله، ومفعوله. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..}. إلخ: معطوفة على جملة: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ..}. إلخ، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب يتعلق بفعل محذوف، التقدير: وإذ لم يهتدوا به؛ ظهر عنادهم، ولا يعلق بقوله:
{فَسَيَقُولُونَ} لأنه مستقبل يتعارض مع المضي المفهوم من الظرف. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَهْتَدُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال