قال أنس-رضي الله عنه-: ما خفي على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الاية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنّا في غزاة، وفيها سبعة من المنافقين يشكّ فيهم الناس، فأصبحوا ذات ليلة، وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق، فذلك سيماهم. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: في معنى القول وفحواه ومقصده، ولحن القول أسلوبه وإمالته إلى جهة تعريض، وتورية عن التصريح إلى المعنى، قال الشاعر:[الكامل] ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا... واللحن يعرفه ذوو الألباب
وهذا محمود من حيث البلاغة، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم:«فلعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض» وإليه قصد بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وأمّا اللحن المذموم؛ فظاهر، وهو صرف الكلام عن الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب، أو التصحيف، ومعنى الاية: وإنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرّضون به من القول، من تهجين أمرك، وأمر المسلمين، وتقبيحه، والاستهزاء به. فكان بعد هذا لا يتكلّم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه بقوله، ويستدلّ بفحوى كلامه على فساد باطنه، ونفاقه. هذا؛ ولحنت بفتح الحاء ألحن لحنا: إذا قلت له قولا يفهمه عنك، ويخفى على غيره. ولحنه هو عنّي بكسر الحاء يلحنه لحنا؛ أي: فهمه، وألحنته أنا إياه، ولا حنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري:[الخفيف] وحديث ألذّه هو ممّا... ينعت النّاعتون يوزن وزنا
منطق رائع وتلحن أحيا... نا وخير الحديث ما كان لحنا
يريد أنها تتكلم بشيء، وهي تريد غيره، وتعرّض في حديثها، فتزيله عن جهته من فطنتها، وذكائها، وقد قال تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقال القتّال الكلابي: [الكامل] ولقد وحيت لكم لكي تتفهّموا... ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
وقال مرار الأسدي، وكله من القرطبي:[الطويل] لحنت بلحن فيه غشّ ورابني... صدودك ترضين الوشاة الأعاديا
وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين، قال عقبة بن عامر-رضي الله عنه-:
خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:«إنّ منكم منافقين، فمن سمّيت؛ فليقم» ثم قال: «قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان» حتى سمّى ستّة وثلاثين رجلا ثم قال:
«إنّ فيكم، أو منكم منافقين، فاتّقوا الله». قال: فمرّ عمر-رضي الله عنه-برجل ممن سمّى مقنّع قد كان يعرفه، فقال: مالك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: بعدا لك سائر اليوم! {وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ:} فيجازيكم على حسب قصدكم؛ إذ الأعمال بالنيات، ولا يخفى عليه شيء منها.