كلامكم مرتفعا على كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخطاب، وذلك؛ لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام. وقوله تعالى في الاية السابقة:{لا تُقَدِّمُوا..}. إلخ نهي عن فعل، وقوله هنا:{لا تَرْفَعُوا..}. إلخ نهي عن قول.
{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ..}. إلخ، أمرهم الله أن يبجلوه، ويفخموه، ويعظموه، ولا يرفعوا أصواتهم عنده، ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا، فيقول: يا محمد، بل يقولون: يا رسول الله! يا نبي الله! قال تعالى في سورة (النور) رقم [٦٣]: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} انظر شرحها هناك. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} أي: مخافة أن تحبط أعمالكم. انظر شرح:
(حبط) في الاية رقم [٩] من سورة (محمد صلّى الله عليه وسلّم). {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ:} وأنتم لا تعلمون.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: لما نزلت هذه الاية؛ قال أبو بكر-رضي الله عنه-:
يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا السرار، أو أخا السرار، حتى ألقى الله! وعن عمر-رضي الله عنه-: أنه كان يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه، وروي أيضا:
لما نزلت الاية الكريمة قعد ثابت بن قيس بن شماس في بيته، وكان جهوري الصوت، وقال: أنا من أهل الاية، واحتبس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأل عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ-رضي الله عنه-فقال:
يا أبا عمرو ما شأن ثابت؛ أيشتكي؟ فقال سعد-رضي الله عنه-: إنه لجاري، وما علمت له شكوى! قال، فأتاه سعد، فذكر له قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال ثابت-رضي الله عنه-: نزلت هذه الاية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنا من أهل النار! فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«بل هو من أهل الجنّة». متفق عليه، زاد في رواية «فكنّا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة». وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال: أنا صيّت، وأتخوف أن تكون هذه الاية نزلت فيّ! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة» فقال: رضيت ببشرى الله، ورسوله، لا أرفع صوتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبدا، فنزلت الاية التالية.
فقال أنس-رضي الله عنه-: فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة؛ رأى ثابت-رضي الله عنه-من المسلمين بعض انكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا، ثم ثبتا، وقاتلا؛ حتى قتلا، واستشهد ثابت، وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام، فقال له: اعلم أنّ درعي عند فلان رجل من المسلمين نزعه مني، فذهب به، وهو في ناحية من العسكر عند فرس يستن في طوله، فأت خالد ابن الوليد، فأخبره حتى يسترد درعي، وائت أبا بكر، وقل له: إن عليّ دينا حتى يقضيه عني، وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالدا، فوجد الدرع، والفرس على ما وصفه، فاسترد