سلمان الفارسي أقوى منه؛ لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب، فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لابائهم، وتوقف فيهم طائفة، والمذهب الثالث-وهو الصحيح؛ الذي ذهب إليه المحققون-: أنهم من أهل الجنة، ولكل مذهب دليل، ليس هذا موضعه.
{بِأَكْوابٍ:} جمع: كوب، وهو وعاء مدور، لا أذن له، ولا عروة بخلاف الإبريق، فإن له ذلك، والملاحظ: أن لفظ (أكواب) جاء بسورة (الزخرف)، وسورة (الدهر) و (الغاشية) جاء بلفظ الجمع، ولم يأت له مفرد قطعا؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور، والرقة، والانكشاف، وحسن التناسب كلفظ (أكواب) الذي هو الجمع، وقل مثله في: أباريق، فإنه لم يستعمل منه مفرد، ولم يذكر إلا في هذه (السورة) ومفرده: إبريق، سمي بذلك؛ لأنه يبرق لونه من صفائه. {وَكَأْسٍ:} انظر الاية رقم [٢٣] من سورة (الطور).
و {مَعِينٍ} أي: ماء جار ظاهر للعيون، يقال: معين، ومعن، كما يقال: رغيف، ورغف، فهو فعيل من: معن الماء: إذا جرى. أو من الماعون، وهو المنفعة؛ لأنه نفّاع. أو هو مفعول من:
عانه: إذا أدركه بعينه؛ لأنه لظهوره مدرك بالعيون، فبين الله جلت قدرته، وتعالت حكمته: أنها ليست كخمر الدنيا؛ التي تستخرج بعصر، وتكلف، ومعالجة، وإنما هي فعيل من المعن وهو الكثرة. وانظر أنواع الماء في سورة (محمد صلّى الله عليه وسلّم). {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها} أي: لا تنصدع رؤوسهم من شربها؛ أي: إنها لذيذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. {وَلا يُنْزِفُونَ} أي: لا تذهب عقولهم بشربها. يقال: نزف الرجل، ينزف، فهو منزوف، ونزيف: إذا سكر. قال الشاعر:[المتقارب] وإذ هي تمشي كمشي النّزي... ف يصرعه بالكثيب البهر
البهر: الكلال. وانقطاع النفس، وقال جميل بن معمر، وهو الشاهد رقم [١٥٩] من كتابنا «فتح القريب المجيب»: [الكامل] فلثمت فاها أخذا بقرونها... شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج
وهذا على قراءة: «(ينزفون)» بفتح الزاي: وهو بكسر الزاي، بمعنى: لا ينفد شرابهم، ولا تفنى خمرهم. قال الشاعر:[الطويل] لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم... لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. فذكر الله خمر الجنة، فنزهها عن هذه الخصال. انتهى. ففي هاتين الايتين من البلاغة ما لا يخفى، وهو فن الإيجاز.
{وَفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ:} روى الترمذي عن أنس-رضي الله عنه-قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه