للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النطف. {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي: أأنتم تخلقون ما تمنون بشرا. {أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ:} المقدرون المصورون؟! والمعنى: أنه خلق النطفة، وصورها، وأحياها، فلم لا تصدقون بأنه قادر مقتدر على أن يعيدكم كما أنشأكم؟! احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق. {نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي: الاجال، فمنكم من يبلغ الكبر، والهرم، ومنكم من يموت صبيا، وشابا، وغير ذلك من الاجال القريبة، والبعيدة. وقيل: معناه أنه جعل أهل السماء، وأهل الأرض متساوين في الموت، شريفهم، ووضيعهم، فعلى هذا القول يكون معنى (قدرنا) قضينا.

{وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: لا يفوتنا شيء نريده، ولا يمتنع منا أحد مهما أوتي من القوة، والجاه، والعظمة في الدنيا. وقيل: معناه: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم، وإبدالكم بأمثالكم، وهو قوله تعالى: {عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ} أي: نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم في أسرع حين. {وَنُنْشِئَكُمْ} أي: نخلقكم. {فِي ما لا تَعْلَمُونَ:} من الصور، والهيئات، والمعنى تغيير شكلكم، وحليتكم إلى ما هو أسمح منها، من أي خلق شئنا. وقيل: نبدل صفاتكم، فنجعلكم قردة، وخنازير، كما فعلنا بمن قبلكم؛ أي: إن أردنا ذلك ما فاتنا.

وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-كما في قرطبي، وفي الخازن: سعيد بن المسيب {فِي ما لا تَعْلَمُونَ:} في حواصل طيور سود، كأنها الخطاطيف، تكون ببرهوت، وهو واد باليمن، وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ، وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم؛ قدر، ولو شاء أن يمسخهم في غير صورهم؛ قدر. وقال بعض أهل المعاني: هذا يدل على أن النشأة الثانية يكونها الله تعالى في وقت لا يعلمه العباد، ولا يعلمون كيفيته، كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل، ويكون التقدير على هذا، وما نحن بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمونه، يعني: وقت البعث، والقيامة، وفيه فائدة، وهو التحريض على العمل الصالح؛ لأن التبديل، والإنشاء هو الموت، والبعث، وإذا كان ذلك واقعا في الأزمان، ولا يعلمه أحد، فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة، ولا يغفل عن إعداد العدة.

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى} أي: الخلقة الأولى، ولم تكونوا شيئا، حيث خلقكم الله من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي: بأني قادر على إعادتكم بعد الموت، كما قدرت على إبدائكم أول مرة بطريق الأولى، والأحرى؟! قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} رقم [٢٧] من سورة (الروم)، وقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [٢٩]: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ،} وفي سورة (الأنبياء) رقم [١٠٤]: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ،} وغير ذلك كثير. وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى! وعجبا للمصدق بالنشأة الاخرة، وهو لا يسعى لدار القرار! وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي، والنسفي: وفيه دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

<<  <  ج: ص:  >  >>