وتناديه بصوت يخنقه الحزن، ونبرات تخالطها العبرات: يا رسول الله! تزوجني أوس وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سني، ونثرت له بطني؛ جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله؛ فحدثني بها، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعيد عليها ما قال من قبل:«لم ينزل عليّ في أمرك شيء، وما أراك إلا قد حرمت عليه».
وكأن إحساسا خفيا بالفرج يساور المرأة؛ لأن رحمة الله تأبى أن تصيرها إلى هذا الشتات، وأن ترمي بها في ظلام هذا المستقبل الكريه، فتتوجه إلى الله شاكية ضارعة: رب أشكو إليك وحدتي، وشدة فاقتي، وما يشق علي من فراق زوجي، وأولادي؛ رب إنك تعلم أن لي منه صبية صغارا، إن تركتهم إليه؛ ضاعوا؛ وإن ضممتهم إليّ؛ جاعوا.
بهذه الشكوى الضارعة توجهت المرأة إلى ربها، وحينئذ أذن الله لشكواها، وتقبل ضراعتها، ورحم ضعفها، وحل معضلتها، وأنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم قوله:{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي..}. إلخ. وحينئذ طلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم زوجها، وسأله:«هل تستطيع العتق؟». فقال: لا والذي بعثك بالحق، فقال:
«هل تستطيع الصوم؟». فقال: لا والله! إن أخطأني الأكل في اليوم مرة، أو مرتين كلّ بصري، وظننت أني أموت، فقال:«فأطعم ستين مسكينا». قال: ما أجد إلا أن تعينني منك يا رسول الله بمعونة وصلة، فأعانه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعونة تصدق بها على ستين مسكينا. وخذ ما يلي:
فعن عائشة-رضي الله عنها-: أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة خولة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تكلمه، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل:{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي}. أخرجه البخاري تعليقا، ورواه النسائي، وابن ماجه. وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد-رضي الله عنه-قال: لقيت امرأة عمر-رضي الله عنه-، يقال لها:
خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها، حتى قضت حاجتها، وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! حبست رجالات قريش على هذه العجوز. قال: ويحك! تدري من هذه؟ قال: لا! قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل، ما انصرفت عنها؛ حتى تقضي حاجتها؛ إلا أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها؛ حتى تقضي حاجتها!
هذا؛ وروي: أنها قالت لعمر-رضي الله عنه-في موقفها ذلك: يا عمر! قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك: يا عمر، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإنه من أيقن بالموت؛ خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب؛ خاف العذاب.
هذا؛ والمحاورة: المراجعة في الكلام من: حار الشيء، يحور: إذا رجع، يرجع، ومنه الدعاء المأثور:«نعوذ بالله من الحور بعد الكور». قال عنترة في معلقته رقم [٩٥]: [الكامل] لو كان يدري ما المحاورة اشتكى؟ ... ولكان لو علم الكلام مكلّمي