الشيطان إلى أوسطهم، فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر، ولم يخبر به أحدا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال الأصغر لأخويه: والله لقد رأيت كذا، وكذا، فقال الأوسط: أنا والله رأيت مثله، فقال الأكبر: وأنا والله قد رأيت مثله.
فانطلقوا إلى برصيصا، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها؟! فكأنكم قد اتهمتموني. فقالوا: لا والله لا نتهمك، واستحيوا منه، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان، وقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وكذا، وإن طرف إزارها خرج من التراب، فانطلقوا، فرأوا أختهم على ما رأواه في المنام. فمشوا في مواليهم، وغلمانهم معهم الفؤوس، والمساحي، فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها وكتفوه، ثم انطلقوا به للملك، فأقر على نفسه، وذلك: أن الشيطان أتاه، فوسوس له، فقال له: تقتلها، ثم تكابر يجتمع عليك أمران: قتل ومكابرة، اعترف، فلما اعترف؛ أمر الملك بقتله، وصلبه على خشبة، فلما صلب؛ أتاه الأبيض.
فقال: يا برصيصا! أتعرفني؟ فقال: لا! قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك، خنت أهلها، وزعمت: أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحيت؟ فلم يزل يعيره ويعنفه؛ حتى قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك، وفضحت أشباهك من الناس، وفضحت نفسك، فإن مت على هذه الحال لن تفلح أبدا، ولن يفلح أحد من نظرائك. قال: وكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه، فآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك. قال: وما هي؟ قال: تسجد لي.
قال: ما أستطيع أن أفعل. قال: بطرفك افعل، فسجد له برصيصا، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك، صارت عاقبتك إلى أن كفرت بربك. انتهى. خازن، ومثله في القرطبي.
هذا؛ وفي حاشية الجمل: المراد به برصيصا العابد، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«الإنسان الذي قال له الشيطان: اكفر، راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم، ليدعو لها، فزين له الشيطان، ووطئها، فحملت، ثم قتلها خوفا من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا، فاستنزلوا الراهب، ليقتلوه، فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أن ينجيه منهم، فسجد له، فتبرأ منه». انتهى. نقلا من الخطيب.
هذا؛ وأبعد الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي حيث قالوا: والمراد من الإنسان الجنس. وقيل: هو أبو جهل؛ قال له إبليس يوم بدر:{لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ}. انتهى. بيضاوي، أقول: انظر الاية رقم [٤٨] من سورة (الأنفال). هذا؛ ولا تنس التشبيه التمثيلي في قوله تعالى:{كَمَثَلِ الشَّيْطانِ} حيث وجه الشبه منتزع من متعدد، كما في قوله تعالى:{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ} الاية رقم [٢٤] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.