وإنّي وإن أوعدته أو وعدته... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وهذا هو قول الجوهري، وقول كثير من أئمة اللغة، وأما عند ذكر الموعود به، أو الموعد به، فيجوز أن يستعمل (وعد) في الخير وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى في سورة (المائدة):
{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ،} ومن الثاني قوله تعالى شأنه، وتعالت حكمته في سورة (الحج) رقم [٧٢]: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأنشدوا: [الطويل] إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته... وإن وعدت خيرا أراث وعتّما
كما يستعمل (أوعد) فيهما أيضا، كقولك:«أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرا». هذا؛ والمركّز في الطبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات: أنك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرا؛ كان الخلف محمدة، وإن وعدته خيرا؛ كان الخلف منقصة، وهذا ما أراده طرفة في بيته المتقدم الذكر.
هذا؛ والثابت عند الأشاعرة: أنه يجوز إخلاف الوعيد في حقه تعالى كرما. وعند الماتريدية لا يجوز. وأما الوعد؛ فلا يجوز الخلف في حقه تعالى اتفاقا. دليل الأشاعرة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«من وعده الله على عمل ثوابا؛ فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقابا؛ فهو بالخيار إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه».
هذا؛ والوفاء بالوعد حلية الأنبياء، وشعار ذوي التقى، والفضل من الأصفياء، ورمز الثقة من ذوي الرأي، والحكمة من العقلاء، وقد أكد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر العهد، وشدد في طلب الوفاء بالوعد، وبين أن من أخلف الوعد، ونكث العهد؛ فقد خان الله ورسوله، وباع آخرته بدنياه، وخرج عن دينه، ودخل في النفاق. فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-. قال: ما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له». رواه أحمد، والطبراني.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«آية المنافق ثلاث؛ إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». رواه البخاري، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له:«وإن صلّى وصام، وزعم أنه مسلم». وزاد أبو يعلى من رواية أنس:«وإن صام وصلّى، وحجّ واعتمر، وقال: إني مسلم». وقال الشاعر المسلم:[الطويل] فإن تجمع الافات فالبخل شرّها... وشرّ من البخل المواعيد والمطل
ولا خير في وعد إذا كان كاذبا... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل
ومن أحسن ما قيل في تشبيه من يخلف الوعد بمسيلمة الكذاب قول بعضهم:[الطويل] ووعدتني وعدا حسبتك صادقا... فبقيت من طمعي أجيء وأذهب