للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأشياء. ومثل هذا كثير في أوائل السور، وأثنائها. قال الشعبي-رحمه الله تعالى-: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق. وقال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: أقسم الله بهذه الأشياء تشريفا لها، وتنبيها على ما ظهر فيها من عجائب الله، وقدرته، وقوام الوجود بإيجادها. وقيل: فيه مضمر، تقديره: ورب القمر، أي: المقسم به محذوف، وقد ورد التصريح به في قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} رقم [٢٣] من سورة (الذاريات).

هذا؛ وفي هذه الآيات أقسام ثلاثة جوابها قوله تعالى: {إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ} الواو الأولى للقسم، والواوات بعدها للعطف، كما قال الخطيب، أو كل واحد منها للقسم، كما قاله السمين. أقول: والأول أقوى؛ لأن قول السمين يحوج إلى تقدير جواب لكل قسم. وقد بينت ذلك في الشاهد رقم [٨٠] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» وخذه، وهو قول أبي صخر الهذلي: [الطويل]

أما والّذي أبكى وأضحك والّذي... أمات وأحيا والّذي أمره أمر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى... أليفين منها لا يروعهما الذّعر

{وَالْقَمَرِ:} أقسم الله به لكثرة منافعه، وتنويها بشأنه. {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أي: ولى ذاهبا، وقرئ: «(دبر)» وهما لغتان، يقال: دبر، وأدبر، وكذلك: قبل الليل، وأقبل، وقد قالوا: أمس الدابر والمدبر. قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي أخو الخنساء-رضي الله عنها-: [الكامل]

ولقد قتلناكم ثناء ومواحدا... وتركت مرّة مثل أمس الدّابر

وقيل: دبر بمعنى: أقبل. تقول العرب: دبرني فلان، أي: جاء خلفي، فالليل يأتي خلف النهار، وأقسم الله بالليل؛ لأنه وقت نزول الرحمات، ولا سيما الثلث الأخير منه، ففي الحديث الشريف: «إذا كان الثلث الأخير من الليل؛ فإن الله ينزل فيه إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر، فأغفر له؟ هل من مسترحم، فأرحمه؟ هل من مبتلى فأعافيه؟ هل من كذا؟ هل من كذا؟ حتى يطلع الفجر». أخرجه البخاري، وغيره. وهذا الحديث من المتشابهات، فالخلف يقولون: ينزل رحمته، وجوده، وكرمه، وأهل السلف يقولون: نزول لا نعلمه. وقيل: إن ابن تيمية كان يخطب على منبر دمشق، وقد قرأ الحديث، وقال: ينزل ربنا هكذا، ونزل درجات، فإن صحت الرواية عنه؛ فيكون من التجسيم.

{وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ:} أضاء، وقرئ: «(سفر)»، وهما لغتان، يقال: سفر وجه فلان، وأسفر: إذا أضاء. وفي حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسفروا بالفجر، فإنّه أعظم للأجر». أي: صلوا صلاة الفجر مسفرين. وقيل: طولوها إلى الإسفار، والإسفار: الإنارة، والإضاءة، والإشراق. وهو مصدر الفعل: «أسفر» وهو بكسر الهمزة هنا، وهو بفتح الهمزة جمع: سفر، وهو الكتاب الكبير، كما

<<  <  ج: ص:  >  >>